الإعلام.. في حوار الحضارات والأديان


من الآثار الإيجابية لمبادرات الحوار التي شهدها العالم في الآونة الأخيرة، وما سبقها من كتابات أو دعوات، أن برزت وظيفة الإعلام بوصفه ذراعا من أذرعة العملية الحوارية بين الشعوب والطوائف والأديان..

ولسنا هنا بصدد تكرار مقولات معروفة عن قدرات الإعلام ووظائفه المتوقعة منه في إشاعة التفاهم الإنساني، متى ما استثمرت وسائله لغايات إيجابية سديدة، لكن هذه المقالة تبسط بضعة تصورات حول ما يمكن للإعلام أن يقوم به في هذا الظرف بالذات، الذي بدأت الأصداء فيه تتفاعل مع النداء السعودي للتقارب بين الأديان، ونبذ الخلافات العقدية، واستكشاف نقاط الاتفاق والتلاقي في القيم الخيّرة، وهي الأكثر، بين كل الديانات.

لقد لاقت تلك الدعوة، ارتياحا عالميا، شعبيا ورسميا، واسعا، وشكلت بصيص أمل داخل نفق الاحتباسات الاتصالية بين الشعوب، ذلك أن السياسة قد استطاعت، ومنذ قرون، أن تعكر صفو العلاقات بين بني البشر، وأن تترك رواسب وسواتر وحجبا كثيفة في العلاقات الإنسانية.

ولعلي في هذا الصدد، وبصراحة، أستشهد كيف شوّهت الصهيونية وجه اليهودية في عالمنا الإسلامي، بعد أن كان اليهود يتعايشون مع المسلمين وبالعكس في أوطان واحدة، وهو تشويه بلغ درجة الخلط بينهما في وسائل الإعلام أحيانا. ونستشهد في مثال آخر، كيف استطاعت الأيديولوجية الشيوعية أن تسدل سواتر من حديد على شعوبها، وأن تغرس الإمبريالية في نفوس مواطنيها ـ عبر الإعلام والصور القاتمة ـ نذر الخوف والشكوك والأوهام من الشعوب الصينية والروسية وغيرهما، حتى إذا ما انقشعت الحقائق وتكشفت، وجد العالم أن في تلك البلدان أعراقا وشعوبا مسلمة ونصرانية ويهودية متمسكة بثقافاتها، تمارس عباداتها، في العلن أو في الخفاء، في مساجد وبيع وصوامع، لم تغيّرها ضغوط الأيديولوجية الفكرية والسياسية والإلحاد.

أما المثال الثالث الأوضح على ما تقدم، فلعله ذلك العداء المستحكم الذي ساعد الإعلام على ترويجه، وحجب شعبين متجاورين في البحر الكاريبي (الولايات المتحدة وكوبا) نتيجة ضغائن وتوجهات أيديولوجية متباينة، مع أنه لم يكن يوجد بين الشعبين ثارات من احتلال، أو خلاف على أرض ووطن، أو حروب توسعية.

ثم أعود إلى زمن أقدم، لنستذكر كيف اختلطت السياسة بالعقيدة في عهد الخلافة الإسلامية المبكرة، لتقسم العالم الإسلامي إلى طوائف ومذاهب متنوعة الأطياف، وقد عمل الإعلام البدائي الرائج في تلك العصور على تعميق تلك الانقسامات.

وهكذا كانت بوصلة الإعلام أداة تتجه حيثما تكون توجهات السياسة واتجاهاتها وإملاءاتها، ولذا فإن على الإعلام المعاصر ـ الذي يعيش حقبة انفراجات سياسية سئمت فيها الشعوب من التوترات والضغائن، ومرحلة من العولمة الاتصالية الأفقية والرأسية، ونوافذ مفتوحة لتقبل الحوارات بين الثقافات المتباينة ـ أن يعمل باحترافية إيجابية، لإصلاح ما أفسدته السياسة، ولترميم ما تهدم من حصون الدفاع عن القيم والمثل التي جاءت بها الأديان السماوية، وأن علينا أن نحيي وسائل الإعلام الملتزمة التي تتمسك بمبادئ المحبة المشتركة، وترفع لواء الأخوة الإنسانية، وتغلب الحوارات البناءة، وتسهم فيها، وتبني قواعد الاحتراف على أسس السلام والأمن الاجتماعي والحفاظ عليهما، والمرجو أن تقوم المؤسسات الشعبية والدولية بواجباتها في إشاعة الحوار الإيجابي بين الشعوب، ودعم مؤسساته، كما نرجو أن تتبنى آليات لتشجيع الحوار عبر وسائل الإعلام الدولية، ورصد جائزة عالمية للمتفوقين فيه.

إن هذه المقالة ـ التي يؤرقها واقع الإعلام الدولي المعاصر، المرئي منه والمسموع والمطبوع ورقيا أو إلكترونيا، الذي يشيع فيه التافه والغث من البرامج والأفكار ـ لا تصدر تعميما على الجميع، فهناك قسم من الفضائيات والمطبوعات، استشعر ـ ذاتيا أو بتوجيه حكومي ـ مسؤولية المهنة، وضوابط الأخلاق والأمانة، فاتجه بما يصدر عنه، وجهة خير وصلاح لجماهيره، بعيدا عن الغوغائية والإثارة والفوضى وتصدير الكراهية، ملتزما مبدأ الكلمة الحسنة، والدعوة إلى الأخوّة، فصار لزاما في هذا المقام أن نشيد بهذا الإعلام المسؤول، وبالدور الإيجابي الذي يمكن أن يقوم به في سبيل تعايش الحضارات وإشاعة التفاهم بين الشعوب، كما نشيد بدور بعض الحكومات، التي يقوم فيها الإعلام الوطني بدور بنّاء في هذا السبيل. وإنه لا يكفي للدعوة ـ التي أطلقها قبل عامين، ملك المملكة العربية السعودية من مكة المكرمة للحوار بين الحضارات والأديان، وذلك التحرك السعودي المعروف في أوائل السبعينات للحوار الإسلامي المسيحي ـ أن تبقى خلف الأبواب المغلقة والندوات والمؤتمرات المنتقاة، بل ينبغي أن تنطلق إلى فضاءات أرحب في الإعلام والجامعات والمنتديات والبرلمانات المشتركة والمحافل الدولية، وأن تكون إعلانا عالميا لحقوق الشعوب في التواصل ونبذ العزلة، والتآخي في ما بينها، وأن تكون مادة في دساتير الدول وسياساتها الإعلامية المكتوبة.

لقد مل الناس الطرق المسدودة، والنوافذ المغلقة، والانكفاء وراء الشعارات الفارغة، وآن الأوان لكي نعود بالإعلام والسياسة والدبلوماسية، للأخذ بالتوجيه الرباني، نحو عالم بلا حواجز، وحضارات بلا سدود، وشعوب بلا عصبية، وعقائد تحترم الآخر.

إن من يشاهد واقع الإعلام العالمي المعاصر اليوم، ليشعر بالأسى لما آلت إليه الحال من تفشي الإسفاف والخلاعة في بعض وسائله الأهلية، لكن الإنصاف يقتضي منا الاعتراف بأن الكثير من تلك الوسائل قد حافظ على مستواه المهني، مع الإشارة في هذا الصدد، إلى ما اتجهت إليه بعض الدول من تخصيص قنوات فضائية هدفها تأصيل طريق الحوار مع الشعوب الأخرى، وهو توجه ينبغي تشجيعه، والعمل على رفع مستواه، وتنقيته من الطرح الدعائي المسيّس، بحيث يكون موضوعيا سليم الأهداف والمضامين.

لقد كان الاستعمار والحروب والخلل في التنمية الاقتصادية بعض أسباب التوتر في العلاقة بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، ثم جاء التطرف بين أتباع كل الديانات دون استثناء، ليوقظ الفتن، وكان المفترض على الإعلام الحرّ المتحضر أن يساعد في لجم الأصوات الناشزة، وأن يتحلى دعاة التعصب قبل غيرهم بالتسامح الديني وبالمثل والقيم التي تفرضها التعليمات السماوية السامية.

وإن لليونسكو وأمثالها من المنظمات العالمية، وظيفة أساسية مرتقبة ومسؤولية خاصة في أن تواصل مسيرة الحوار البنّاء غير المؤدلج بين الحضارات، وأن تعمل على بلورة السياسات المشجعة، إقليميا وعالميا، لحفز التوجه نحو إشاعة التقريب بين الحضارات والأديان والثقافات، ونبذ الكراهية والصدام والبغضاء، مقترحين في هذا السياق أن تعمل اليونسكو على إنشاء مركز دولي للحوار بين الحضارات، يحتضن لقاءات دورية فيه، ويتبنّى عقد ندوات إقليمية في أنحاء العالم، وفي بؤر التوترات، لتفرز صوت العقل المتسامح، الذي قد تبنى عليه مبادرات وحلول للسلام والتعايش بين الشعوب المتناحرة.

ـ موجز بحث مقدم إلى مؤتمر مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز عن حوار الحضارات (جنيف01/10/2009).

* باحث وإعلامي سعودي