زكية أبا الخيل ووداع امرأة باهرة

هذا الكتاب إهداء “لمن ظلت على الدوام بعيدًا عن دائرة الضوء.. تنافسها الأوراق والأحبار.. تحملت سأم التصويب والخربشات.. وطنين الآلة وعزلة الانشغال.. وصابرت كدر الأيام، مثلما ذاقت صفوها.. وثبتت بصبر في الملمات.. واحتسبت مرض العزيز وفقده.. ووقفت حياتها لأحفادها دون نفسها.. الزوج الرؤوم زكية عبدالله أبا الخيل.. والدة المرحوم (طلال) وشقيقتيه رشا وشادن، وأولادهم.. في ذكرانا الخمسين”

بهذه الكلمات التي تجمع الوفاء مع العشق بلغة عذبة بديعة صادقة غير متكلّفة، ابتدأ الرمز الثقافي الراحل الدكتور عبدالرحمن الشبيلي إهداء واحد من كتبه الخمسين لزوجه الكريمة زكية بنت عبدالله المنصور أبا الخيل في ذكرى زواجهما الخمسين، وهي سليلة أسرة نجدية عريقة شهيرة، ولوالدها وجدّها تجارة عريضة في الزّبير والبصرة، ولهما أعمال خيرية في التعليم والإصلاح والحفاظ على الهوية والأخلاق خاصة عقب الاحتلال الإنجليزي خلال الحرب العالمية الأولى.

أما أخوالها فمن أسرة العبدالجليل النجدية من بني تميم ويرجعون إلى حوطة سدير، وجدّها الشيخ أحمد العبدالجليل من كبار وجهاء الكويت والزّبير وأعيانهما، وكان يجيد اللغة الإنجليزية حتى أن الشيخ أحمد الجابر الصباح -حاكم الكويت- اصطحبه مترجمًا له في رحلته إلى إنجلترا عام (1919م)، وبسبب طبيعة هذا البيت الباسقة أصهر إليه رجال كبار من وزراء ورجال أعمال وأساتذة جامعات وأطباء ومسؤولين الذين غدوا أزواجًا لأخوات الزكية وعدلاء لأبي طلال.

والكتاب المُهدى من المؤلف لزوجه كتاب فخم من جزءين جمع فيه د.الشبيلي بلغة التكريم والتقدير، وبجهد الباحث الخبير، سير أعلام من مختلف مناحي حياتنا الثقافية والإعلامية والتجارية والمجتمعية والرسمية، لم يأخذوا حظهم الذي يستحقونه من البروز الإعلامي، وحظي الكتاب بتفاعل ثقافي كبير أثناء صدوره. ولكأنّ الرجل يهمس إلى زوجه ويُعلن للجميع: هذا من فضل ربي ثمّ من فضلك، وإنك لتستحقين مثل ماكتبت عنهم وأزيد، ولا غرو فهي عَلمٌ من أعلام حياته المؤثرة فيه والمتأثرة به، وهي النقية الزكية مثل اسمها.

وإن من يطلّع على شيء من خبر الزوجين ليجد لفتات جميلة، فالشبيلي المثقف رأى في الفتاة القادمة من البيئة النجدية في العراق مطمحه للاقتران والزواج، بينما هي رأت فيه الشاب المثالي الذي يعرفه أهل بلادها من خلال شاشة التلفزيون، وبين خوف من الشهرة واقتناع بمواصفات الرجل الهادئ اقتنعت برأي أخيها قائم مقام والدها الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل الذي قال لها: مثله يُخطب، وهو يحقق شروط أبينا بتزويج بناته إلى من يُرضى دينه وأمانته مع تأكيد الأولوية لمن كان أقرب دارًا وأبعد عمّا يريب.

فبدأت الشابة حياة الجدية مع زوجها المنغمس في دراسته العليا، وكانت له إذ ذاك السكن والمستودع، ولم تأنف من كثرة ولائمه بأمريكا وهي السمة التي ظلت معه إلى قبيل رحيله، ومما يُروى عن الملحق الثقافي الشيخ عبدالعزيز المنقور إشادته برجاحة عقل أم طلال، وحسن تدبيرها، وعظيم كفايتها لزوجها في جميع شؤونه ليتفرغ للدراسة حتى استطاع دراسة اللغة والحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه خلال سنوات خمس فقط.

وإن من يقرأ وسم د.عبدالعزيز الخويطر ويطالع فهارسه التفصيلية سيجد فيه شهادة متكررة على ولائم الشبيلي المتتابعة في منزله ومزرعته، ولو لم تكن في بيته امرأة كريمة متعاونة مضيافة تشرّف الزوج لما استطاع تنفيذ عُشر تلك المناسبات والولائم، وإن المرأة لركن في البيت، وبمثل الزكية العليّة ترتفع البيوت، وتقوى أعمدتها، ويستعين الزوج على أعماله وتحقيق أهدافه، ولأجل ذك صرح زوجها غير مرة بأن اقترانه بأم طلال هو أفضل قرار في حياته، وهو بها يفاخر.

ولم تقف عند هذا الحد، فبعد عودتهم إلى الرياض استضافت في بيتها عددًا كبيرًا من أقارب زوجها وأقاربها استضافة دائمة أو مؤقتة أو متكررة دون تبرم أو ضجر، واشتهرت بتقديم غيرها على نفسها في كلّ شأن حتى استولت على القلوب والعقول، ولذا عاش المستضافون في البيت وكأنهم من أفراده، فالطفل ينادي الزوجين بالأبوة والأمومة، والمحيط القريب يطلق على بعض الفتيان والفتيات اسم “الشبيلي” مع أنهم لا ينتمون للأسرة، وإنما تداخلوا مع البيت وخالطوا أهله حتى أصبح من العسير فصلهم عن بيت عبدالرحمن وزكية.

كما أن الزكية السَّنية لم تكتف بالمساندة الاجتماعية لزوجها، بل دأبت على أن تقرأ مقالاته وكتبه كلها وهي مسودات خلا كتابًا واحدًا هو حديث الشرايين الذي كتب فيه الشبيلي قصة نجلهما الوحيد “طلال” مع الأمراض والوفاة الحزينة على قلبه وعلى قلب زكية التي كُلمت وتجلّدت وصبرت. وإن أم طلال بهذه المشاركة الثقافية الفاعلة لتناقض قول العرب “أزهد الناس بعالم أهله” فكم من مرة ومرة اقترحت تعديلًا أو حذفًا وإضافة، وزوجها الكاتب يقبل رأيها الذي يعود لذائقتها، ولخوفها عليه، ويثني على دقتها وثقافتها ولغتها.

أما في شؤون التربية والتعليم فيظهر تميز الوالدة الزكية في ابنتيها الكريمتين، وفي نجلها الذي سار على الدرب الصحيح بعد مدة يسيرة من الالتفات لهوايات عامة لا تسوء. واستمر أداؤها التربوي مع الأحفاد والأسباط، إذ كانت مع زوجها لهم مثل الأب والأم وليسوا أجدادًا فقط، ولذلك تجد في عقل الفتي منهم والفتاة ركانة أكبر من عمره الحالي، وخبرة تتجاوز عدد سنواته الماضية، وفي قلوبهم مودة لهذه الجدّة تضاهي حب الأم.

وإن تعجب فعجب علاقة هذه المرأة البهية بزوجة ابنها؛ ذلك أن المجتمع عرف النفرة بين قلبين يتنافسان على قلب واحد، بيد أن زكية أبا الخيل وزوجة ابنها نجلاء الشهيل خرقتا هذه القاعدة، فنجلاء بنت ثالثة لزكية، والزكية أم أساسية لنجلاء، وهي محبة حقيقة متبادلة، ولو لم يكن طرفاها على قدر من الرقي والنضج وحسن الباطن لما استطاعوا الوصول إلى هذا السمو الذي رعاه أبو طلال وفرح به حتى لو اجتمعت المرأتان عليه في ممازحة أو اختيار، والحمدلله أن هذه العلاقة النفيسة بدأت منذ زواج طلال، واستمرت حتى بعد رحيله ورحيل والده.

أما خبر زكية مع زوجها فشأن عظيم، فهي له مستشارة صادقة، وراعية بيت مدبرة، وأم أولاد محسنة، وأمينة مكتبة مخلصة، وفوق ذلك تعلمت منه وتعلم منها، حتى امتزجا في كيان واحد بالطبائع السوية، والارتقاء عمّا لا يجدر بهما، وفعل الواجب والمستحب وتحاشي غيره، وكانا في محياهما مثالًا للوداد والتشارك في تفاصيل الحياة ودقائقها ومشاعرها الذي يبصره شاب وتلاحظه شابة، فيسأل كلّ واحد منهما نفسه: يا ترى هل سيكون شريكي معي وأنا معه مثل أبي عبدالرحمن وأمي زكية مع بعضهما؟!

ولها مع سجادتها ومصحفها ووردها اليومي أمر يذكر ويُروى، وقد زادته صروف الأيام قوة ومتانة، خاصة بعد وفاة طلال، ثم إجراء والده عملية جراحية خطيرة أنجاه الله منها، فخرج سليمًا معافى لا يشكو من شيء، حتى سقطت به شرفة منزل باريسي صبيحة ليلة مطيرة، ففزعت المرأة العربية المسلمة إلى ربها تناجيه وتدعوه لزوجها، ولها، ولابنتيها، ولأطفال صغار لا يعرفون بعد الله غير جدهم.

ثمّ إني فجعت هذه الليلة بخبر رحيل المرأة العريقة الكريمة زكية بنت عبدالله بن منصور أبا الخيل، في نفس الشهر الهجري الذي رحل فيه نجلها قبل سنوات ثمّ زوجها قبل عامين، وشاع الخبر في نفس يوم رحيل زوجها، وسيصلى عليها عصر الغد في نفس الجامع الذي صلينا فيه على أبي طلال، وفي اليوم والصلاة نفسهما، وسيكون الدفن في المقبرة ذاتها، فيا ربنا الرحمن الرحيم ألهمها حجتها، وثبتها بالقول الثابت، واجمعها بزوجها ونجلها في جنانك، وصبّر قلوب ابنتيها وأحفادها وأسباطها وإخوانها وأخواتها، وقلوب من أحبها وأحبتهم وإنهم لكثرة كاثرة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

 ليلة الأربعاء 13 من شهرِ ذي القعدة عام 1442

23 من شهر يونيو عام 2021م