مواقف كثيرة سجلها في جزأين، وراجعها وعلق عليها بأسلوب رائع ودقيق الدكتور عبدالرحمن الشبيلي -رحمه الله-، ومن الصعوبة الإحاطة بكل ما ورد في هذه السيرة من مواقف ووظائف مختلفة،

مقتطفات من ذكريات علامة الجزيرة حمد الجاسر -رحمه الله- تصلح أن تكون من كتب القراءة الحرة لطلبة المدارس، فيها الكثير من العبر والمعاناة وشظف العيش والشجاعة وقوة الإرادة، والوقوف مع الحق حتى لو أدى ذلك إلى فصله أو نقله إلى منطقة أخرى، عايش بدايات توحيد المملكة على يد المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، الكثير مما في المذكرات تبين الفرق الواضح بين أين كنا؟ وكيف أصبحنا؟، قصة واحدة تكفي لتبين كيف كانت الجزيرة العربية قبل مجيء الملك عبدالعزيز، فقد أورد حادثة تختصر الوضع الأمني، حيث قال: “توفيت خالة أبي هيا الفايز، فحملها أبي على حمار، وبعد وضع جثمانها على باب وتغطيته بعباءة فوق الكفن، لدفنها في مقبرة البرود، هجم عليه في منتصف الطريق قطاع الطرق بأسلحتهم، وسرقوا كل شيء، ومنه الكفن والعباءة وأخذوا الحمار معهم وتركوا الميت كيوم ولدته أمه، تحدث كثيراً عن الفقر والحاجة وانتشار الأمراض وقسوة الرجال، حيث تحدث عن والدته -رحمها لله- فقد عاشت مع والده عيشة تعب وشقاء وفقر، كان الزوج كالكثير من الأزواج في ذلك الزمان حاد المزاج، يغضب ويثور لأتفه الأسباب، لكن الزوجة كانت كثيرة التحمل شديدة الصبر، لشفقتها على أبنائها الأربعة.

لو بقي الشيخ حمد في بلدته الصغيرة والمحدودة الموارد لأمضى حياته في الفلاحة ذات المردود المتواضع والجهد البدني المنهك، وخطر جفاف الآبار حين يتأخر موعد المطر، وحتى إن جاء المطر فمعظم الجهد يذهب للدائنين، ولو بقي في قريته ربما أصبح معلم كتاتيب كما أراد له جدّه الذي كان معلماً وإمام مسجد وخطيب جمعة، لكن الطموح والإصرار، والملل من الروتين جعل علامة الجزيرة ينتقل إلى الرياض وهو في سنّ العاشرة، ليتعلم المزيد من علوم الدين وحفظ القرآن الكريم على يد قريب كفيف البصر، وبعد وفاة هذا القريب عاد إلى بلدته ليجد أباه قد هده المرض فكفله جدّه لأمه، يتعلم على يده بعض كتب الدين ويتعلم الخطابة والصلاة بالناس عند غياب جده.

انتقل إلى البادية وهو في سنّ الثانية عشر ليصلي بأبناء البادية، وأثنى عليهم كثيراً لشهامتهم وكرمهم وعفويتهم، وانتقل كاتباً مع الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ إلى هجرة (عروا) وسكانها من قبيلة عتيبة، وقد أثنى على أميرها جهجاه، ووصفه بالذكاء ورجاحة العقل وسلاسة الأخلاق، كما أثنى على زوجته (شيخة) ورجاحة عقلها واهتمامها بهم، وكان هذا الوقت مباشرة بعد معركة السبلة التي انتصر فيها الملك عبدالعزيز وأطفأ نار الفتنة وساد الأمن.

تحدث عن التعليم وبداياته البسيطة وإمكاناته المتواضعة، فالكتابة على لوح من خشب الأثل، يطيّن حتى تسهل الكتابة عليه، ومتى ما حفظ الطالب الدرس يقوم بغسله وتجهيزه للدرس المقبل، أما الحبر فمن (السنو) وهو ما يبقى من آثار النار فوق ظهر القِدر أو باطن المقرصة بعد خلطه بمواد أخرى، أما الأقلام فمن عيدان طويلة من اليراع يأتي بها الحجاج من مكة، وقد يستعاض عنها بأغصان العوشز اليابسة، كانت بدايات التعليم صعبة والإمكانات قليلة، والمقاومة شديدة من قبل علماء الدين والمجتمع، حاربوا تدريس العلوم الحديثة، وحاولوا الاكتفاء بعلوم الدين وبأسلوب الحفظ فقط.

تقلب في مناصب كثيرة، أكثرها في مجال التعليم حيث عين مدرساً في مدينة جدة، وفي ينبع، وفي الأحساء، ثم أصبح مراقباً على مناهج تعليم شركة أرامكو في المنطقة الشرقية، كما كان مسؤولاً عن المعهد العلمي ثم كليات اللغة العربية والشريعة، كما عمل قاضياً في الوجه، وأخيراً استقر في مدينة الرياض، أنشأ أول صحيفة في الرياض هي (اليمامة)، وأصدر مجلة العرب، وأنشأ أول مطبعة ثم انصرف للتأليف والتحقيق والنشر.

كان على تواصل مستمر مع الملك سعود -رحمه الله- حين كان ولياً للعهد، وكان مهتماً بنشر التعليم على مستوى المملكة، وخاصة في منطقة نجد التي كانت في مركز متأخر وسبقتها كل من المنطقة الغربية والشرقية في فتح المدارس الحديثة.

مواقف كثيرة سجلها في جزأين، وراجعها وعلق عليها بأسلوب رائع ودقيق الدكتور عبدالرحمن الشبيلي -رحمه الله-، ومن الصعوبة الإحاطة بكل ما ورد في هذه السيرة من مواقف ووظائف مختلفة، وليس هذا المقال سوى إطلالة على منجم كبير يحوي كنوزاً من الذكريات والدروس والعبر.