سوانح الذكريات من أبدع ما نز به يراع علامة الجزيرة العربية حمد بن محمد الجاسر – عليه وابل الرحمة – بل هو من أجلَّ كتب السيرة الذاتية الذي وثَّق فيه تاريخ المملكة العربية السعودية، ذكريات في منتهى المتعة وغاية النفع، وتحوي كثيرًا من الأخبار الطريفة، والطرائف المفيدة، فيها بديع فكر الشيخ، وفيها استجمام للعقل، وراحة للخاطر، وصفاء للذهن، وتحكي رواية نجاح الشيخ حمد الجاسر وتعثره في حياته الطويلة المديدة التي ربت على التسعين عامًا، وهي ترسم صورة البيئة السعودية والمجتمع السعودي آنذاك في بواكير نهضتهما وتكوينهما، بشكل واضح ودقيق خلال أربعة عقود زمنية خاض الشيخ الغضنفر تجاربها بحلوها ومرها، وحدها وحديدها، لذا تتسم هذه الذكريات بسعة الأفق، واتساع المجال، فهي واقعة في مجلدين جميلين هما عبارة عن كوكبة نيرة وزمرة مشرقة من مقالات نشرت للشيخ تباعًا في المجلة العربية الرائدة، ثم رأى المخلصون تخليد أمرها وحفظها وجمعها بين دفتي كتاب فكانت هذه السوانح الشوارد، وهي ضخمة جدًا يربو عدد ورقها على الألف ورقة، وأشرف على بعثها للحياة مركز حمد الجاسر الثقافي -عمره الله- يقول الدكتور عبد الرحمن الشبيلي -عليه رحمة الله- عضو مجلس الأمناء واللجنة العلمية – بمركز حمد الجاسر الثقافي – (لم أكن لأجرؤ على مراجعة عمل قام به قمة مثل شيخنا العلامة حمد الجاسر، أو على التجاسر على التعليق عليه بأي شكل من الأشكال، …. ومع ذلك كان لابد من تجاوز هذه الاعتبارات، لأن من المهم أن تظهر هذه السوانح بالسرعة الممكنة دون مزيد تأخير، وأن تبدو بأقصى قسط – ممكن وأوفاه من التكامل والشمولية، والمظهر الذي يليق بمكانة مؤلفها،…. سوانح الذكريات التي بين أيدينا هي الخواطر والسيرة الذاتية والوحيدة التي سجلها الشيخ في حياته، وهي في الواقع تعد من أنفس ما خلفه -رحمه الله- من تراث فكري، وكان أن نشرتها «المجلة العربية» تباعًا….).
وفي هذه السيرة الذاتية يحكي علامة الجزيرة العربية ونسابتها ومؤرخها مطالع حياته، متحدثًا عن مسقط رأسه قرية البرود، وتعليمه وتدرجه فيه خطوة خطوة، كما ألمح إلى اتصاله بعميد الأدب العربي طه حسين وهي من محطات حمد الجاسر العلمية المهمة التي حدثت في حياته، كذلك تحدث عن عمله في الأحساء، ورحلته وترحاله، وتأسيسه لمجلة اليمامة ومطابع الرياض.
والشيخ حمد عليه وابل الغفران قد أجهد ذاكرته في اقتضاب معلومات هذه الذكريات، يقول لك – أيها القارئ الكريم – تحت عنوان – بين يدي السوانح – (هذه اللمحمات قد تكون أوفى تفصيلاً، وأكثر مطابقة للواقع لو بدأت بتسجيلها في وقت كانت الذاكرة أقوى مما هي عليه الآن، ولكن ما كان هذا يخطر لي ببال قبل بضعة عشر عامًا، حين كنت في بيروت قبل الحرب الأهلية التي حدثت في 13 نيسان (أبريل) عام 1974م وأكملت عامها الحادي عشر في 4 شعبان 1406هـ (نيسان 1986م). فلقد كان بين يدي في ذاكرتي ما أستطيع الاستعانة به من المعلومات، وكنت فكرت في تدوين بعض ذلك، وشرعت بإملاء جوانب منه… لكن سرعان ما استعر أوار الحرب، فأتي على كل شيء، تحت يدي في تلك المدينة، ولم يبق سوى ما كنت نشرته في بعض الصحف وما اختزنته الذاكرة الكليلة، وها أناذا أعصرها وأعود إلى بعض ما لحقت يدي مما نشرته لأدون هذه اللمحمات كيفما اتفق….).
وشوارد السوانح جميلة أنيقة متباهية متدلية وقد استوقفتني اثنتان الأولى: فيها دلالة على ظرافة الشيخ وطرافته وعنوانها: (المطوع وجنيه مصلح)، والثانية: فيها دلالة على تواضع الشيخ، وإيضاحه بكل ثقة وجرأة وشجاعة لنقطة التحول في حياته والانعطاف في مسيرته الجغرافية، وهذه الشاردة من أهم محطات حياة الشيخ التي تجدر بالباحث الوقوف عندها وتأملها حق التأمل، وهو أنه حينما كان يعمل بمدرسة ينبع الابتدائية، تلقى درسًا جغرافيًا من صغار تلاميذه وفحواه التالي: كان يقرأ على طلاب الصف بيت أبي العلاء المعري:
يهيم الليالي بعض ما أنا مضمر
ويثقل رضوى دون ما أنا حامل
ويشرحه لهم، موضحًا أن رضوى جبل قريب من المدينة المنورة -حرسها الله- فصاح به الطلاب: ها هو جبل رضوى أمامك، وهو كما ترى ليس قريبًا من المدينة ولا تستطيع الإبل أن ترقاه، فكانت هذه المعلومة من هؤلاء الطلاب منعطفًا جغرافيًا ساق الشيخ إلى تاريخ الجزيرة العربية بأعلامها ومواقعها وأنسابها وقبائلها.
وعلى ثراء الكتاب وأهميته ونفاسته وثقله يرى بعض من الباحثين أنه لم يلق حقه من العناية والاهتمام، من هذا القبيل ما أشارت إليه الدكتورة عزيزة المانع في مقال لها صدر في جريدة – عكاظ – (26-7-1427هـ) جاء فيه: (ما يستغرب له هو أنه على رغم قيمة الكتاب ونفاسته ومتعته إلا أنه لم يحظ بشيء من اهتمام النقاد والدارسين فصدر في صمت لم يذكره أحد رغم أنه عمل قيم جدير بأن يحتفى به من الدارسين والمتخصصين ومن العامة على السواء).
وأخيرًا: فسمة هذا الكتاب الفريدة أنها كتبها عالم في الأدب والصحافة والتاريخ عرف الأصول وسبر الأغوار، ثم حرصه الشديد على وصف المجتمع السعودي الذي يعيش بين لداته فجاءت صورة فوتوغرافية دقيقة شفافة طابقت الأصل ووافقته، وثمة سمة أخرى وهي شخصية الشيخ حمد بن محمد الجاسر وثقله العلمي ومشواره الصحفي وما استطاع أن يصل إليه من طموحات، وما يحققه من أمان.
** **
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
-بنت الأعشى-