ورد ذكر إبراهيم المعمر (1878 ـ 1958) كثيراً في وثائق عصره، لكن ترجمة وافية عن سيرته الشخصية لم تكتب بعد، فضلاً عن أن جوانب من محطات حياته ما تزال بحاجة إلى توضيح، والمرجو أن يتمكن الباحثون من تحقيق رحلته الطويلة في عالم التجارة والدبلوماسية والإدارة مدة تزيد عن ستين عاماً.
لقد مضى على وفاته ما يقارب من خمسين عاماً، لا يرد اسمه خلالها إلا ويقرن بالاحترام، وهو في الواقع شخصية لافته للأنظار، سواء فيما يتصل بثقافته العلمية في مقياس الفترة التي عاشها، أو فيما يتعلق بالمسؤوليات والمناصب الرفيعة التي تولاّها.
ومن المعروف، أن آل المعمر هي اسرة نجدية كريمة مشهورة، كانت لها منذ قرون، وما تزال، إمارتا العيينة وسدوس المجاورتين للدرعية، العاصمة القديمة للدولة السعودية، ويحفظ التاريخ كثيراً من أخبار هذه الأسرة عند ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن السابع عشر.
وللعائلة تاريخ عريق، وتتمتع بروابط أسرية تنظم نشاطاتها الاجتماعية، وقد ألف أحد باحثي الأسرة (عبد المحسن بن محمد بن عبد العزيز المعمر) في عام (1995) كتاباً ضافياً عن تاريخ آل معمر وإمارتهم السابقة في العيينة، في القرن السابع عشر.
ومن المؤكد أن إبراهيم المعمر يعّد في فترته من الشخصيات السعودية القليلة التي نالت حظاً من التعليم الحديث خارج منطقة نجد التي لم تتوافر سبل التعليم فيها إلا في الأربعينات من القرن الماضي، فكان في ذلك يشابه حظ شخصيات مثل أحمد الثنيان وابن سليمان ومحمد المانع وجميعهم من رجالات الديوان الملكي، وكذلك بعض التجار المرموقين في تلك الأيام ممن درس في الهند أو مصر أو بلدان الخليج.
وبما أن حيز هذا المقال لا يسمح بالتوسع في سيرته، خاصة أن معلومات كثيرة ما تزال خافية، فسيقتصر الحديث على المحطات الأبرز فيها، لعلها تعطي فكرة كافية عنه توضح الغرض من إفراده بهذا المقال، وتحرك الباحثين لاستكشاف المزيد عنه والتعمق في ترجمة حياته، وجمع المتناثر مما كتب عنه، خصوصاً أنه ـ من حيث العمر ـ قد عاصر الملك عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية الحديثة، وعايش عهده في بدايته وحتى نهايته، ورافق ـ بالتالي ـ بدايات الدولة وظروف تأسيسها وقيام مؤسساتها الدستورية والإدارية، ولو قدر لنا أن نعثر على مذكراته وأرشيفه الشخصي ومقالاته كلها، فإنها ستكون من المصادر الأولية الجيدة المساندة للتاريخ الوطني، والتي ما تزال تظهر تباعاً منذ الاحتفال بالمئوية.
1- فبالنسبة لنشأته، ترجح الكتابات القليلة المتوافرة عنه أنه من مواليد الكويت حيث كان والده يقيم ويمارس التجارة فيها، وأنه ربما ولد في حدود عام 1878، وقد أمضى طفولته وتلقى علومه الأولية في الكويت، ثم سافر إلى بعض بلدان الخليج والهند، التي اكتسب فيها الإنجليزية والأردية والفارسية، إن بالدراسة أو بالممارسة، لكونه في تلك الفترة قد احترف مهنة والده (التجارة) التي لا توجد معلومات كافية عنها.
كما تردد على أوروبا وبعض الدول العربية والآسيوية والأفريقية، وهو أمر تميز به المعمر على كثير من أقرانه في زمنه، حيث أكدت بعض الكتابات كثرة أسفاره.
ثم استقر في مصر عدة سنوات، عاد بعدها إلى الرياض (1926)، حيث ترك التجارة وواصل الخدمة العامة على النحو الذي سيجري التفصيل فيه، وقد توفي مستشفياً في بيروت عام 1958 عن عمر يناهز الثمانين، مخلفاً من الأبناء: عبد الله وعبد العزيز (اللذين احتلا في عهد الملك سعود بخاصة مناصب متقدمة في الديوان الملكي)، وعبد الرحمن وأحمد وسعود، ومن البنات: نورة وفاطمة وشعّيع ومنيرة.
وكان المعمر يُميّز عند عامة الناس في جيله بلقب (الجنيفي)، وهو لقب لا يعرف أساس إطلاقه، وإن كان من المحتمل أن يعزى لقرية من قرى سدير شمال الرياض أقام فيها والده، أو نوع من السلاح السويسري كان يستورده من جنيف.
2- وبينما يذكر المعمر مقروناً دائماً بالمناصب السياسية والإدارية التي شغلها، فإنه قد يذكر بوصفه أديباً، وشاعراً، فلقد كتب كثيراً من المقالات في الصحافة المصرية بالذات، وكان من أبرز ما يعرف من كتاباته في الصحف السعودية مقالان نشرهما عام 1926 في الجريدة الرسمية «أم القرى» واصفاً الرحلة الأولى للملك عبد العزيز من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، كما نشر أبياتاً شعرية يصف فيها تلك الرحلة في الجريدة نفسها التي لم يكن يصدر غيرها آنذاك (العدد 110 يناير 1927).
ويلحظ من يقرأ في رسائل المعمر وكتاباته أنه كان ذا أسلوب حديث، لا تظهر فيه الجُمل الكلاسيكية المألوفة في مراسلات زمنه، مما يدل على عصرية ثقافته وانفتاح فكره حتى لكأنها كتبت في هذه الأيام.
3- أما بالنسبة لالتحاقه بالخدمة الحكومية (بدءاً بديوان الملك عبد العزيز) فلا توجد مراجع موثوقة يعـّول عليها في إثبات بداياتها، لكن فيلبي الذي التقى به في زيارته الأولى للجزيرة العربية عام 1917، ذكر أن المعمر التحق بالعمل السياسي منذ سنوات وأن لـه إلماماً بالمعارف الغربية، مما يرجح أنه ـ أي المعمر ـ قد بدأ في حدود عام 1912 أو 1913 .
مرت حياته العامة السياسية والإدارية بعدة مراحل يجدر التفصيل فيها لأنها توضح الأدوار التي قام بها، وتكمل الصورة الأشمل عن شخصيته وسيرته.
> المرحلة الأولى: الدور الاستشاري : وقد استمر على ما يبدو من حدود عام 1913 كما سبق وحتى 1923، حيث يفهم من الوثائق المتوافرة، السعودية والعربية والأجنبية، أن المعمر قد انضم إلى فريق المستشارين السياسيين الأوائل حول الملك عبد العزيز من جيل أحمد الثنيان والدكتور عبد الله الدملوجي، ولمحت بعض تلك الوثائق إلى أنه كان سكرتيراً بالديوان الملكي مكلفاً بملف الاستخبارات السياسية الخارجية.
> المرحلة الثانية: الدور الإعلامي:
وهو امتداد لدوره الاستشاري، حيث قام بعدة رحلات إلى أوروبا وبعض البلاد العربية مبعوثاً من الملك عبد العزيز، وهو دور يشبه إلى حد كبير ما كان يقوم به في تلك الفترة أمين الريحاني في أميركا الشمالية، إلا أنه لا تتوافر معلومات كافية عن المهام التي كلف بها والجهات التي اتصل بها، لكنه استقر في نهاية المطاف في مصر، ليكمل الدور الإعلامي الذي قامت به شخصيات عربية من أمثال الشيخ محمد رشيد رضا وأمين سعيد في توضيح حقيقة أهداف الحكم السعودي الجديد في الحجاز (1925)، ودحض الافتراءات والشبهات التي كانت تنشرها الدعايات المناهضة له، وقد كتب المعمر خلال إقامته تلك في مصر عدداً من المقالات السياسية التي لو تم الاطلاع عليها وتحليل مضامينها، لأمكن أن تضفي الكثير من المعلومات عن الصورة الذهنية القاصرة حتى الآن عن شخصيته وسيرته، إذ يذكر من اطلع على بعض تلك المقالات، أنه كان يغرف من خبرة واسعة بأحوال الجزيرة العربية ومعرفة بمجتمعها وأهلها.
وقد اطلعت على عدد من الرسائل التي حررها المعمر من مصر إلى الملك عبد العزيز عام 1925 وإلى والده الإمام عبد الرحمن في أعقاب دخول منطقة الحجاز (مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف) في الدولة السعودية الناشئة، فهو يهنؤهما فيها باكتمال توحيد أجزاء البلاد، ويفهم منها أنه كان يزودهما بالجديد من الكتب والمطبوعات العربية.
كما يظهر من رسائله تلك أنه كان يضيف لقب (النجدي) إلى اسمه إبراهيم بن محمد بن معمر، وأنه كان يقطن في الحلمية، ثم في الزيتون في ضواحي القاهرة.
وفي تقديري أن تلك المرحلة قد امتدت عامي 1925 و1926.
> المرحلة الثالثة: الدور السياسي:
وهو الأهم في مسيرته، وقد بدأ في عام 1926 وحتى سبتمبر عام 1933، حيث اختاره الملك عبد العزيز رئيساً للديوان الملكي خلفاً للشيخ الطيب الهزازي (جريدة «أم القرى»، العدد 87 أغسطس 1926)، ويبدو أنه حينما رجع من مصر عاد إلى عمله سكرتيراً مقرباً من الملك عبد العزيز قبل تعيينه رئيساً للديوان، وذلك بدليل ما نسبه إليه الصحافي الألماني (ولفجانج فون) الذي زار المملكة عام 1927 . لقد عرف المعمر خلال تلك الفترة بكثير من المواقف الانسانية والاجتماعية النبيلة، ذلك أن منصباً بهذا المستوى يتيح لشاغله أن يذكر بالخير في مجتمعه طالما بقي في خدمة الناس وتلبية احتياجاتهم، وكان ممن ذكره بذكر حسن في تلك الفترة العلامة حمد الجاسر الذي سجل معي في ذكرياته أن المعمر سهل له الالتحاق بالبعثة في مصر عام 1939.
ويذكر له في مطلع تلك الفترة مرافقة الأمير (الملك) فيصل في رحلته الثانية إلى أوروبا عام 1926، التي انضم إليها كل من د. عبد الله الدملوجي (مدير الخارجية السعودية قبل أن تصبح وزارة) وعبد الله الفضل (التاجر المعروف آنذاك) وعبد الله موصلي (قائد شرطة جدة).
كما يذكر له في هذه المرحلة ـ موفداً من قبل الملك عبد العزيز ـ اجتماعه بوزير الخارجية العراقي (ناجي شوكت) في الكويت للتمهيد لعقد المؤتمر الذي التأم على الطراد البحري (لو بين) عام 1930 بين الملك عبد العزيز والملك فيصل بن الحسين ملك العراق، بمشاركة المندوب السامي البريطاني وأسفر عن توقيع اتفاقية صداقة وحسن جوار بين البلدين (أبريل 1931)
وكان المعمر خلال موقعه هذا قد حضر الموقعة الحربية الشهيرة الفاصلة المسماة (السبلة) التي وقعت عام 1927، مع الإخوان في روضة قريبة من مدينة الزلفي السعودية (250 كم شمال الرياض)، وذكر محمد المانع في كتابه: توحيد المملكة العربية السعودية (ترجمة د. عبد الله العثيمين) أن المعمر كان على رأس مفرزة الرشاشات والمدافع التي كان لها دور حاسم في المعركة، كما شارك في موقعة حربية جرت بعدها في الدبدبة تسمى (القرعة)، وتذكر بعض المراجع أن الملك عبد العزيز قد اختار المعمر لمهمة إحضار فيصل الدويش شيخ مطير ومرافقته عندما أعاده الإنجليز ـ بعدما التجأ إلى الكويت ـ على متن طائرة أنزلته في خباري وضحى حيث مخيم الملك عام 1929. وقد انتهت هذه المرحلة بتعيينه في سبتمبر 1932 في ديوان ولي العهد الأمير (الملك سعود)، وقد ذكر أحد المراجع أن خصومة وقعت بينه وبين أحد أركان الأسرة المالكة قد أدت إلى تغيير موقعه.
> المرحلة الرابعة: العمل الدبلوماسي وتمثّل في تعيينه وزيراً مفوضاً للمملكة لدى العراق (يونيه 1933) بعد فترة وجيزة من افتتاح المفوضية، وكان اصطفاؤه في هذا المنصب الدبلوماسي في واحدة من أهم العواصم العربية المؤثرة في مصالح السعوديين (بغداد) يبيّن ثقة العاهل السعودي بكفاءته.
ولا ننسى أن جالية سعودية كبيرة كانت قد هاجرت إلى العراق، وأن قبائل وعشائر عربية كانت تنتشر على المناطق الحدودية بين البلدين، وهو ما يذكر بأهمية الموقع، فضلاً عن إشرافه على تطبيق اتفاقيات الحدود الموقعة حديثاً بين الدولتين، وعلى تطبيق إجراءات الحج للراغبين فيه.
وقد أشرف المعمر خلال عمله في بغداد على تنظيم الزيارة الأولى التي قام بها ولي العهد الأمير (الملك) سعود عام 1936، ويذكر له في تلك الفترة تفكيره في عدم مناسبة تنكيس العلم السعودي على هامش الحداد العام على وفاة ملك العراق (فيصل الأول) عام 1933، وهو تقليد تبنته الحكومة بعد ذلك التاريخ احتراماً لكلمة الشهادة التي يحملها العلم، وقد أدى احتجاج الإنجليزعلى ترويج المعمر لزعامة الملك عبد العزيز في الجزيرة العربية وعلى صلاته القوية مع رؤساء العشائر، إلى نقله من بغداد بعد خمس سنوات من العمل الدبلوماسي.
> المرحلة الخامسة: الدور الإداري : يتمثل في تعيينه قائمقام مدينة جدة (1937)، وهو منصب معروف بقي معمولاً به في جدة منذ الحكم العثماني والهاشمي في الحجاز، ثم ألغي قبـل عدة سنوات ليحل محله منصب (محافظ) جدة، وكان من أبرز من شغله في نهاية العهد الهاشمي وبداية العهد السعودي عبد الله علي رضا، ثم خلفه بعد وفاته عبد العزيز بن معمر (أمير الطائف فيما بعد)، ثم خلفه محمد عيد الرواف، الذي نقل إلى بغداد بمجرد تعيين إبراهيم المعمر، بمعنى أنهما تبادلا المواقع، وقد شغل المعمر هذا المنصب حتى وفاته (أي نحو عقدين من الزمن).
ومرت فترة، خلال توليه هذا المنصب، كان المعمر كلف، إلى جانب عمله هذا بعمل وكيل وزارة الخارجية (بالنيابة عن فؤاد حمزة الذي تغيب لأسباب صحية في 3 مارس 1938)، وقد ورد في الوثائق البريطانية والفرنسية عدة مخاطبات بتوقيعه، من بينها على سبيل المثال خطابه المّوجه بتاريخ 17 أبريل 1938 إلى السفير الفـرنسي بجدة، يعبر فيه عن شكر وزير الخارجية السعودي (الأمير فيصل) بمناسبة وصول طائرة فرنسية مهداة إلى الملك عبد العزيز.
وكان من بين المهام التي قام بها، ترتيب زيارة ملك أفغانستان ـ محمد ظاهر شاه المقيم حاليا في أفغانستان ـ إلى المملكة عام 1949، والتي تمت قبل وفاة الملك عبد العزيز بنحو أربع سنوات، وقد خصص إبراهيم الحسون في كتابه «خواطر وذكريات» (3 أجزاء 2003) حيزاً كبيراً تطرق فيه إلى اسلوبه وخصاله نظراً لكونه عمل سكرتيراً خاصاً له في قائمقامية جدة.
وبعــد:
فهذه ملامح من سيرة إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن سيف المعمر، أحد رجالات الدولة السعودية، التي رافقت مراحل التأسيس الإداري والسياسي المبكرة، لكنها ملامح لا تكتمل دون العثور على مذكراته، وتتّبع جميع ما كتب عنه، فهو من الرواد الذين يتجدد تاريخهم، ومن الأوائل المعروفين برجاحة العقل والمروءة والوطنية، وقد وردت عنه إلمامات محدودة في كتابات حمد الجاسر ومحمد المانع وعبد الله فيلبي وأمين سعيد ومحمود بشير المدني ووليام فيسي، كما ورد ذكره كثيراً في الوثائق الأجنبية المحفوظة عن فترته.