الإذاعي الفلسطيني الشامخ : منير شماء


كانت سعادتي غامرة، عندما جاء صوته عبر الهاتف بنبرته القوية المعهودة، بما ينبىء عن صحة وحيوية، بعد أن كان لديّ انطباع مسبق أنه قد اتخذ من تونس مقراً لتقاعده، وأن صحته لم تكن على مايرام.
وقبل سنوات، كان هناك شمّاء آخر، وباللقب نفسه على ما أعتقد (أبوعمر)، وبالشبَه ذاته (أشقر بشعر فضيّ)، يتخذ من إحدى زوايا صالون فندق غروفز هاوس في لندن مجلساً يومياً له، فانكفأتُ للسلام عليه، لكنه أدرك التباسي بابن عمه، مبدياً شكره لاغتباطي بفرصة لقائه,.
يكشف هذا المقال المركّز جوانب من شخصية فنان وإعلامي عريق، غزير الإيمان بالله، عنيد في الحق، مخلص لعمله، قدير في مجاله، أبيّ النفس، لا يرضى بأقل من قدره، ولا يقبل أكثر من حقه.
منير شمّاء: بطاقة شخصية
لعل من حسن حظ كاتب هذا المقال أن حصل على نسخة من مقابلة موسّعة مع منير شمّاء، أجراها الكاتب الصحفي ياسين معتوق، فكانت نعم العون في إتمام إعداد الفقرات الآتية:
ولد في مدينة (صفد) بفلسطين في 5/7/1919م، وكانت له تجربةٌ لم تكتمل في دراسة الطب في مصر، وفي العمل البنكي بالقدس، وفي تجارة التجزئة والعمل الأمني، في حراسة الأحراش الفلسطينية.
عمل مذيعاً في محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية في يافا سنة 1943م، ثم مذيعاً لمدة عشر سنوات في إذاعة لندن (1945 1956م) حيث استقال احتجاجا على العدوان الثلاثي على مصر.
تزوّج ببريطانية عام (1956م) ولهما ابنان: عمر وكريم.
التحق بإذاعة تونس الوطنية بعد استقلالها (1957م) ولمدة 3 سنوات، لكنه عاد إلى لندن عام 1960م كي يحتفظ بجنسيته البريطانية، لكنه لم يعد إلى وظيفته السابقة في إذاعة لندن.
عمل في الإذاعة والتلفزيون السعودي لمدة سبع سنوات (1963م 1970م).
فتح مكتباً في لندن ولمدة سبع سنوات أخرى، لمساعدة الطلبة العرب للحصول على قبول جامعي، والمرضى للعلاج في المصحّات.
عاد إلى جدة عام 1977م ولمدة سبع سنوات ثالثة عمل خلالها في شركة الكهرباء.
تقاعد في عام 1984م، ثم اختار تونس للإقامة فيها منذ عام 1987م وحتى الآن، وقد تزوج من تونسية في عام 1991م.
رزق قبل عام بحفيده الأول (من ابنه كريم).
أصدر عدة مجموعات قصصية من ترجمته أو من تأليفه، ويعكف حالياً على كتابة مذكراته.
منير شمّاء في محطة الشرق الأدنى
المعروف أن إذاعة الشرق الأدنى كانت بريطانية (الغاية والتبعية والتمويل) بثياب عربيّة، وقد أنشئت في مدينة يافا بفلسطين اثناء الانتداب البريطاني وقبل احتلال اليهود لها (وذلك في مطلع الأربعينيات الميلادية).
كانت تلك الإذاعة تهدف إلى مواجهة المدّ الإذاعي الموجّه إلى البلاد العربية من إذاعتي برلين (أيام هتلر) وإذاعة باري بإيطاليا (أيام موسوليني)، وكانت ببرامجها ذات الصبغة الثقافية والترفيهية العالية تجتذب المستمعين العرب، معتّمة على أهدافها الدعائية، كما كانت تستقطب كبار المقرئين والأدباء والمغنين.
وقد كان لابن عمه (فهمي شمّاء) الذي كان يعمل في تلك الإذاعة، ولشمس الدين مارساك مدير المحطة آنذاك الفضل في اجتذاب منير شمّاء في مطلع عام 1943م للعمل مذيعاً فيها، بعد أن لفت الأنظار بحسن صوته وبإلمامه باللغة الإنجليزية، وكان من زملائه في تلك الفترة الصحفي المعروف سليم اللوزي، وقد كُلّف منير في بداية عمله برصد الإذاعات الأخرى (الاستماع)، فكان يتابع بالذات مايذيعه يونس بحري من دعاية ضد الإنجليز من إذاعة برلين (النازية).
ويُذكر أن سليم اللوزي تطاول بكلمات غير لائقة بحق الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني، فما كان من منير شماء إلا أن وجّه إليه لكمة قوية كادت أن تؤدّي إلى فصله، إلاّ أن تفهّم إدارة الإذاعة لظروفها حوّل الفصل إلى ترقية للعمل مترجماً، ثم مذيعاً، أما اللوزي فقد عاف العمل الإذاعي بسببها واتجه إلى الصحافة.
والمعروف أن هذه الإذاعة قد انتقلت إلى قبرص بعد احتلال فلسطين (سنة 1948م)، ثم أُغلقت في إثر العدوان الثلاثي على مصر (1956م)، وقد خرّجت نخبة من أبرز الإذاعيين العرب، الذين توزّعوا على الإذاعات العربية الأخرى، ومن بينها الإذاعة السعودية، فيما بعد.
في إذاعة لندن:
لم تدم فرحة منير شماء، طويلاً بترقيته مذيعاً في محطة الشرق الأدنى، إذ سرعان ما نشب خلاف بين مديرها الإنجليزي الجديد (اسمه فيليب) وبين فهمي شماء أدى إلى فصل الثاني، وإلى فصل منير بتبعية القربى وعقوبة له على نسبه معه.
كان منير شماء يثمّن الكفاءة الإدارية والتنظيمية والمهنية العالية لمحطة الشرق الأدنى (هنا يافا) ويجري مقارنة لصالحها مع (هنا لندن) مع أن الاثنتين إنجليزيتان.
لكن خبر فصله من إذاعة الشرق حمل إليه خبراً مفرحاً وهو أنه كانت قد أُرسلت تسجيلات صوتية لمذيعي (يافا) إلى إذاعة لندن بناء على طلب الأخيرة لاختيار مذيعين منهم، فاختارت في الدفعة الأولى يوسف البندك واختارت منير شماء في المرة الثانية.
يقول منير شماء: إن إذاعة لندن العربية كانت مرتبكة التنظيم في بداية عملها لأنها أُسست على عجل، وقال إن حافظ وهبة، سفير الملك عبدالعزيز في بريطانيا هو الذي افتتح القسم يوم 2/1/1938م، وأن القسم استقطب أجود الأجهزة الفنية، وأفضل المذيعين العرب مثل شيخ المذيعين المصريين: أحمد كمال سرور الذي كان أول من قال: هنا القاهرة, وأول من نطق: هنا لندن، وقد كان لمنير شماء دور كبير في تنفيذ برنامج إصلاحي وضعه على غرار تنظيمات إذاعة الشرق الأدنى.
كانت إذاعة لندن قد أُخذت على حين غرة من جودة برامج إذاعتي باري وبرلين العربيتين، فكانت تركز في بداية عهدها على الأخبار بسبب أوضاع الحرب.
واستمر منير شماء ركناً من أركان إذاعة لندن العربية، حتى عام 1947م، عندما اجتمعت عليه مصيبتان في عام واحد: الفصل من الإذاعة بسبب ترجمة كلمة (الإرهاب) الإنجليزية بكلمة (الإجرام) اعتقاداً منه بأنها التعبير الأدق، أما المصيبة الأخرى فهي اغتصاب وطنه فلسطين وبالتالي انتهاء صلاحية جواز سفره الفلسطيني الصادر من سلطة الانتداب الإنجليزية في فلسطين.
وبضياع الوظيفة الرئيسية في الإذاعة استمر يقتات على راتب لا يتجاوز ستة جنيهات من التعليق لدى شركة قومونت للسينما على شريط أنباء سينمائي إخباري أسبوعي يعلق عليه باللغة العربية للعرض في دور السينما في الدول العربية قبل عرض الأفلام.
وتقدم في عام 1949م بطلب الحصول على الجنسية البريطانية ففاز بها بعد أن انغلقت أمامه أبواب السفارات العربية الخمس الموجودة آنذاك في لندن.
ثم عاد للعمل في إذاعة لندن بعد أن عمل فترة قصيرة مترجماً مع كنعان الخطيب في خدمة تحكيم دولية بين قطر والبحرين، حيث احتج الشباب القطري والبحريني ومثقفوهما لدى الإذاعة المذكورة على فصله متهمين إياها بالانحياز، إلا أن كرامته لم تسمح له بالبقاء في خدمة إذاعة بلد تشارك في عدوان على مصر عام 1956م فقدم استقالته مع عدد من زملائه احتجاجاً، ورافضاً كل الإغراءات بتعيينه مساعداً لمدير القسم العربي لو استمر في عمله.
وهنا بدأ يفكر في العمل في إحدى الدول العربية، فكان أن تحققت له أمنية الانتقال للعيش في تونس.
أحب الملك فيصل كما أحب جلالته القدس:
تعرّف منير شمّاء على فيصل بن عبد العزيز (الأمير) رحمه الله، وعلى عدد من إخوانه عندما زاروا لندن عام 1946م (بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية) حيث قاموا بزيارة هيئة الإذاعة البريطانية، ومع أن الفيصل كان يفهم الإنجليزية ويتحدثها إلا أنه كان يفضل مخاطبة الصحفيين بالعربية، ويكلف منير شمّاء بالترجمة، وقد نقل منير شمّاء في مذكراته كيف كان الصحفيون يهابون الفيصل ويحترمون آراءه، وكيف نمت العلاقة بينه وبين الملك فيصل فيما بعد، وسؤال الملك عنه عند كل زياراته التالية إلى لندن، وأثناء عمله في جدة.
منير شمّاء والإعلام السعودي:
التحق هذا الإذاعي العربي المعتّق، بالإذاعة السعودية في عام التحاقي بها (1963م) فكان وجوده وأمثاله (كعزيز ضياء) فرصة لمن لم يتلق تدريباً مسبقا مثلي، في أن يجد على يديهم مدرسة للتمرين على رأس العمل، ويذكر منير بأن شقيقه سمير شماء المحامي المعروف هو الذي سعى لمساعدته في العمل بجدة قريباً من الحرمين الشريفين.
كانت الإذاعة السعودية تدرك مقدار منير شمّاء ومبلغ كفاءته بالذات، لكنه في لندن، كان يُخصّص لنشرات الأخبار والبرامج السياسية، أما في الإذاعة السعودية التي كغيرها من الإذاعات العربية نادراً ما تتبع المدرسة الغربية في ذلك فقد عومل معاملة المذيعين الآخرين، من حيث تكليفه بالربط بين فقرات البرامج على الهواء، وبتقديم مختلف أنواع البرامج، ولعله أحس بشيء من ذلك، حتى أنه كُلّف في وقت من الأوقات بعد افتتاح التلفزيون بالتعليق على برامج الملاكمة ومباريات المصارعة الحرة، فكان انفعال منير مع المَشَاهد يثير إعجاب المُشاهد ويزيد من استمتاعه بمتابعة أحداث تلك المباريات، إلا أن ذلك كان ينبىء بعدم قدرة الإذاعة والتلفزيون على الاستفادة من كفاءته على الوجه الذي عُرِف به وتفوّق في لندن، وكما ارتسم به في اذهان المستمعين العرب من قبل.
كانت الإذاعة السعودية، قد حظيت، ومنذ افتتاحها في عام 1949م، بعدد من الإذاعيين العرب البارزين، المصريين والفلسطينيين بشكل خاص، فاستعانت بالمصريين عند افتتاحها، كما استفادت من بعض الفلسطينيين بعد إغلاق محطة الشرق الأدنى عام 1956م, وبعد إنشاء وزارة الإعلام السعودية في عام 1962م، حرصت على اقتناص بعض الكفاءات الإعلامية السورية واللبنانية من أمثال: خلدون المالح، وزهير الأيوبي ومنير الأحمد وسعيد الهندي وخالد بوتاري وصبحي المحاسب ومسلم البرازي وأديب ناصر.
إلا أن بعضهم ومنهم منير شماء فَقَد شيئاً من بريقه المعهود، بعد أن خرج من عُشّه الذي تعوّد التغريد منه، مما يدلل على أن لكل إذاعة هوية وشخصية تتميز بهما عن غيرهما، وأن أصوات المذيعين فيها ونبراتهم وطريقتهم المتشابهة في الأداء هي جزء من مكوّنات هذه الهوية، وأذكر جيداً تعليقاً طريفاً يصور فيه معالي فهد السديري (وكيل وزارة الإعلام آنذاك) حال الإذاعة السعودية عندما لا تتمكن من الاستفادة الكاملة من قدرات متميزة كهذه, لكن وزارة الإعلام السعودية سرعان ما اكتشفت مواهب إدارية إضافية عند الأستاذ شماء، فأوكلت إليه مسؤولية الإشراف على إنشاء القسم الإنجليزي بإذاعة جدة ثم إذاعة الرياض، كما استفادت منه فيما بعد في مجال استيراد البرامج الأجنبية للتلفزيون السعودي ومراقبتها.
الاستقرار في تونس
بدأت صلة منير شمّاء بتونس على إثر زيارة الحبيب بورقيبة وزملائه إلى لندن، وإجراء مقابلة معه أثناء جولة لهم في هيئة الإذاعة البريطانية عام 1950م، وهي مقابلة منحت المجاهد التونسي فرصة للحديث عن كفاح بلاده ضد الاستعمار الفرنسي القائم آنذاك.
وفي عام 1957م، ارتبط بعقد عمل مع الإذاعة الوطنية التونسية أثناء إشراف الشاذلي القليبي عليها، وذلك على إثر استقلال تونس، وتولّي أبنائها شؤون إذاعتهم، فأسهم معهم في التدريب والإنتاج وإذاعة البرامج والأخبار، كما كُلّف بوضع خطة عاجلة لتعريب الإذاعة وافق عليها الرئيس التونسي الراحل.
والتقى خلال إقامته التي لم تدم طويلاً آنذاك بأدباء تونس ومفكريها، وقد أحب التونسيين وأحبوه، ووجد فيهم صورة للشعب الفلسطيني في نضالهم ضد الاستعمار، خاصة وأنه يَقدم إليهم بعد ان استقال من إذاعة لندن احتجاجا منه وزملائه على العدوان الثلاثي على مصر، وقد أراد الرئيس بورقيبة أن يكافىء منير شمّاء بالجنسية التونسية، لكنه حرص على الاحتفاظ بجنسيته البريطانية، مما جعله يعود إلى لندن بعد أن عمل في تونس قرابة ثلاث سنوات، لكنه التقى الرئيس بورقيبة أثناء زيارة فخامته للمملكة العربية السعودية في منتصف الستينيات الميلادية، وقد قرر منير شمّاء في عام 1989م أن يعود إلى تونس التي أحبها وعمل فيها، وأن يصاهر أهلها، بعد أن وجد في نضالها ومناخها وطبيعتها وطباع أهلها وبحرها أوجه شبه كبيرة مع وطنه الأصلي (فلسطين)، وأونس فيها تخفيفاً من لوعة الاغتراب عنه، فألقى فيها عصا التنقل والترحال.