الإعلام الإسلامي بين ضبط المصطلح وتحديد الأولوية


يعقد في جاكرتا اليوم المؤتمر العالمي الثالث للإعلام الإسلامي، تنظمه وزارة الشؤون الدينية الإندونيسية ورابطة العالم الإسلامي (مقرها مكة المكرمة) بمشاركة وجوه إعلامية وأكاديمية ومهنية، تمثل المنظمات والطوائف والأقليات المسلمة، وكان المؤتمر الأول عقد عام 1980م في جاكرتا بحضور الراحلين الرئيس سوهارتو وأمين عام الرابطة الشيخ محمد الحركان، وعقد الثاني في جاكرتا أيضا أواخر عام 2011م برعاية الرئيس الإندونيسي سوسيلو يودهونو وأمين عام الرابطة د. عبد الله التركي، ويكتسب المؤتمر قيمة مضافة من تبني أكبر دولة إسلامية من حيث السكان لعقده في دوراته الثلاث، ومن حرص رئيس الجمهورية شخصيا على رعايته وحضور مناسبة افتتاحه وختامه.
«الرابطة»، مشروع سعودي تأسس عام 1962 في مكة المكرمة، ليكون منظمة إسلامية شعبية جامعة تهدف للدعوة ولشرح مبادئ الإسلام وتعاليمه، تخدمها أمانة عامة، ويشرف عليها مؤتمر عام ومجلس تأسيسي من شخصيات بارزة من مختلف القارات، ويتبع لها مجمع فقهي ومجلس للمساجد ونحو خمس عشرة هيئة متخصصة تعنى بأمور الإسلام والمسلمين، منها على سبيل المثال هيئتا الإغاثة والإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ويشكل الإعلام أحد الاهتمامات التي حرصت «الرابطة» منذ المؤتمر الأول على خدمته وعلى إنشاء هيئة متخصصة لشؤونه، حيث أوصى المؤتمر الأول (1980) بإنشاء الهيئة وأقرها المجلس التأسيسي للرابطة، وتكونت لها نواة مؤقتة.
وفي حين يتضح من هذه المقدمة الانسجام الوثيق بين مقاصد الرابطة وبين الإعلام والترابط بينهما على مدى ثلاثة عقود ونيف، تأتي مناسبة المؤتمر الحالي فرصة للتعبير عن بعض الخواطر المتصلة بالنهوض بالأهداف المتوخاة منه، وبالسعي لتطوير الهيئة الفتية.
كان مصطلح «الإعلام الإسلامي» تعبيرا يجري بسلاسة على ألسنة أهل الإعلام عندما يكون التفكير في ما له صلة بالدين، مثل أقسام الإعلام في الجامعات المتخصصة بالعلوم الشرعية، ومثل القنوات المسموعة والمرئية الخاصة بالقرآن الكريم والسنة والبرامج التوعوية، وكالمحطات الإذاعية والتلفزيونية التابعة للجاليات والأقليات المسلمة في أنحاء العالم، لكن إضفاء تعبير «الإسلامي» على الإعلام كان يوحي بإقصاء المناشط الإعلامية الأخرى بكونها غير إسلامية، وهو بالتأكيد أمر غير مقصود، مما دعا إلى اختيار تعبير آخر يحقق الغرض ولا يقصي المجالات التي لا تحمل هذه الصفة، فظهر استخدام مصطلح «الإعلام في المجتمع المسلم أو في العالم الإسلامي»، وصارت صفة «الإسلامية» تذهب إلى البلدان والمجتمعات أو إلى الهيئة، لا إلى الإعلام ذاته.
الأمر الثاني، تحديد نطاقات الإعلام الواقعة ضمن اهتمامات الهيئة وعدم تشتيتها، فالإعلام متنوع بأبعاده وقضاياه وتطور تقنياته، وواسع بميادين الحوار والدعوة والإرشاد والدفاع عن قضايا الإسلام والمسلمين فيه، وبالتالي فإنه ينبغي الانتقاء بين مجالاته وتقديم الأهم من أهدافه على المهم، مع ضرورة تمثيل أنحاء العالم الإسلامي وطوائفه تمثيلا متوازنا لا يكون فيه تمييز ولا إقصاء، والعمل في الوقت نفسه على تحري الوسطية والاعتدال عند تقديم الهيئة خدماتها، والسعي للارتقاء بالمضمون الإعلامي في عمل المؤسسات الأهلية والشعبية وفي مخرجات برامجها الإسلامية، ومساعدة المؤسسات محدودة الإمكانات من خلال تبادل المنافع في البرامج والتدريب ونحوهما، ومعروف أن هذه المسارات لا تتحقق إلا عبر خطة واضحة تسير الهيئة على منوالها، ومن خلال هيكل تنظيمي متكامل لها.
إن اضطلاع الرابطة وغيرها من المنظمات الإسلامية باستثمار ما بحوزة العالم الإسلامي من مقومات وإمكانات وموارد إعلامية هو مما يتطلع إليه المخلصون من الإعلاميين المسلمين في العالم، وفي مقدمة تلك الموارد «الناعمة» المسجد الحرام والمسجد النبوي والقدس الشريف، وكذا المساجد والجامعات – كالأزهر والقيروان والزيتونة والقرويين والأموي وعليكرة وبقية جامعات الهند وروسيا والصين وجوامعها – يضاف إليها العلماء والجمعيات الخيرية والآثار والتراث والتاريخ والمؤلفات والمكتبات والعلوم والقيم والمبادئ، وذلك فضلا عما تمتلكه المؤسسات الإعلامية في العالم الإسلامي من البرامج الإذاعية والتلفزيونية والأفلام الوثائقية والمواد الصحافية التي يمكن تبادلها ووضعها في متناول الجميع وتوفير قاعدة متاحة للمعلومات عنها.
والمرجو، ألا تؤول الهيئة الجديدة إلى ما آلت إليه هيئات مماثلة، إعلامية وغير إعلامية، عربية وإسلامية، غلبت عليها الرتابة والخمول، وصارت منصات للمظاهر والتنظير، ولعقد المؤتمرات الشكلية.
وبينما يمر الإعلام المعاصر بتغيرات متسارعة منذ إطلالة هذا القرن تقريبا، في تقنيته وبرامجه وتوجهاته، بين الانفتاح والشفافية وتحرير المعلومة من جهة، فإنه صار من جهة ثانية يسير في تطبيقات تفسر حرية التعبير بتفسيرات قد تضر بالسلوك والفكر السوي وتسيء إلى المعتقد والمقدس، وإن على هذا المؤتمر بشكل خاص مسؤولية الالتزام بالهدي السماوي، والحفاظ على أمانة الكلمة والصورة والمهنية والاحتراف على حد سواء.
والمؤمل من هذا التجمع الإعلامي الكبير في نسخته الثالثة، أن يخرج بموقف عملي ينتقل فيه من مرحلة التنظير إلى الفعل والتأثير، وأن يستوعب متغيرات العصر ويواكب الزمن، وأن تكون لديه الجرأة لمراجعة التجارب السابقة، وأن يبث الحيوية والحراك في إعلام اليوم سعيا لتشخيص حاله، والانتقال به من القضايا الهامشية إلى القضايا الكلية للأمة، فالعالم الإسلامي كما سلف، يمتلك من الطاقات والمقومات ما لا يستهان به، ولديه من الإمكانات الفكرية والعلمية ما قد يغني عن كثير مما يستورد أو يقلد، ولديه في المقابل من المشكلات ما لن تنوء به مقدرات الإعلام المستقيم.
ولعل المؤتمر أخيرا يخصص دورته الرابعة المقبلة لتحديد أولويات الهيئة وتوجيه خططها، بالإفادة من موقع مكة المكرمة في قلوب المسلمين، ومما تختزنه «الرابطة» وهيئاتها من علاقات، وطاقات فكرية، وخبرة في أوضاع المسلمين في العالم، ومما تمتاز به أمانتها العامة من قدرة مرنة على الحركة، ومن وضوح في الرؤية لرسم هوية الإعلام النموذج للأمة، ومن قبول تحظى به في الأوساط الإسلامية والإعلامية.
* إعلامي سعودي