يمر الإعلام العالمي المعاصر، ومنذ مطلع هذا القرن بخاصة، بتحوّلات هيكلية وتقنية وموضوعية متسارعة، ومتفاوتة التأثير، بين ما هو بالغ الفائدة والنفع للبشرية في تحرير المعلومة وشفافيتها وسرعة نقلها وتداولها، وبين ما هو عميق الضرر والتأثير السلبي في علاقات الشعوب والمساس بمعتقداتهم وقيمهم، وهي تغيّرات بدأت نتائجها تعمل على تشكيل مستقبل الإعلام وتحديد صيغه وقوالبه وأنماطه القادمة، وتغيّر من وظائفه التقليدية المتوارثة.
لقد بدأت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية بالذات، ومنذ ظهورها محكومة في معظمها بقوانين تتفاوت قبضتها حسب الأنظمة السياسية السائدة، فصنّفت أنماط الإعلام وأغراضه المعروفة – فـي التوجيه والترفيه والإخبار – بين أنظمة إعلامية شمولية وأخرى ليبرالية وثالثة معتدلة، وذلك وفق ما كان قائما في مختلف دول العالم من مؤسسات إعلامية، حكومية بحتة، أو شبه حكومية، أو تجارية وهي الأقل.
وسواء كانت وسائل الإعلام حكومية توجهها وزارات مركزية، كما في معظم الدول الاشتراكية والنامية، أو مؤسسات عامة كما في بريطانيا وفرنسا ترتبط بالبرلمانات، أو شركات كما هو الحال في أمريكا، فلقد نصت جميع الدساتير وأنظمة النشر والسياسات الإعلامية – بما في ذلك أكثر المجتمعات تحررا – على تقنين حرية التعبير عبر وسائل الإعلام، ووضعت لها المبادئ التي تكفلها من ناحية، لكنها تحدد لها الضوابط الأخلاقية والدينية والسياسية الملزمة، في إطار القانون والنظام العام.
ومنذ أواخر السبعينات من القرن الماضي، اجتهدت المنظمات الإعلامية والمجالس التشريعية والتنظيمية لوضع مواثيق شرف لمهنة الإعلام، تتمحور – بشكل رئيسي – على حماية حريات التعبير من الانزلاق والانحراف، إلا أنها كانت في مجملها صياغات تنظيرية تفتقر إلى الأدوات التنفيذية الآمرة وإلى آليات التطبيق والإلزام، حتى لقد كان الإعلاميون أنفسهم آخر من يعمل بها أو يتذكرها.
ثم بدأت وسائل الإعلام، شيئا فشيئا، وبنسب متفاوتة، تتحرر تدريجيا من قبضة الإشراف الرسمي، في ظاهرة تساوت فيها المجتمعات المحافظة والليبرالية والمعتدلة، حتى رأينا دولا عرفت بمحافظتها تقلص وظائف الأجهزة الإشرافية المركزية، وتتراخى في فتح الأجواء وتحريك المطابع دون تحفظ، وتلغي بشكل متزايد وظيفة الرقابة المسبقة الحكومية والحزبية التي كانت تحكم وسائل الإعلام، وصارت برامج البث المباشر هي السمة الغالبة في كثير من القنوات الإذاعية والتلفزيونية، تنفث الكثير من الغث والإسفاف، ويفلت من خلالها الكثير من الأمور الحساسة التي يصعب تلافيها بعد نفاذها.
وهكذا، غرق العالم، مع مطلع هذا القرن في أنماط جديدة من مخترعات الإعلام، وبآفاق تقنية وموضوعية متنوعة، مستفيدة من أجواء الانفتاح ورفع القيود، وصار بعضها يخترق سياجات الأسرة وأسوار المعابد والمدارس، حتى صار العالم – القرية الكونية – ميدانا، وظفه كل فريق وفق أهوائه واستخداماته، فهو دمية في يد الإرهاب من ناحية، ولعبة صغيرة في أيدي المراهقين والصغار، ومتعة في أيدي المعنيين والعلماء من نواح أُخَر.
ثم صار الميدان والوقت أكثر ضيقا بقنوات التثقيف الجاد والتعليم الممنهج والفكر العميق، التي تراجعت إلى الصفوف الخلفية من عالم الاهتمام والنشر والإبداع، وآل الكثير منها إلى الاحتضار والتلاشي والانحسار، مفسحا المجال لخيارات أكثر جذبا وإلهاء وتشويقا.
وفي عالمنا العربي، وجدت العصبيّات القبلية في هذا الانفتاح وإطلاق حريات التعبير، طريقها إلى تلك القنوات المتاحة عبر الحدود لتوظيفها توظيفا رديئا، في التنابز والتفاخر وإثارة الحميّات عبر المنافسات الشعرية ومهرجانات العروض ورواية القصص التراثية، وفي مقابل ذلك، بدأ يبرز دور أكبر للجماعات المتزمتة ، تُعيّن نفسها أحيانا وصية على فكر المجتمع، وتتدخل في كل شأن، مستخدمة سلاح التكفير أحيانا وإصدار الأحكام بالإدانة غيابيا أحيانا أخرى.
ويعزى لتقنية الأقمار الصناعية القدرة في تمكين الثورة المعلوماتية والإعلامية من اجتياز الحدود، وابتكار الصيغ البرامجية الجديدة التي غيرت من خارطة التقليد والنمطية لصالح قنوات عابرة للقارات متخصصة في شتى أنواع المعارف والصيغ البرامجية المتنوعة، النافعة منها والضارة، ظهرت بداياتها في أواخر القرن المنصرم من دول أوروبية معينة، أطلقت فضاءاتها أولا لبرامج الممارسة الحسية الصريحة للجنس، كانت في البداية مشفّرة محدودة المشاهدة، مقصورة في الثقافة الغربية على البالغين، ثم أصبحت مفضوحة مكشوفة متاحة للنشء والمراهقين، في خروج تام على القيم والمألوف من الأخلاق.
جاءت الألفية الثالثة لتدخل العالم في طور لم يسبق له مثيل من الاختراعات التقنية الهائلة، والتقارب بين الشعوب، والسطوة النافذة لقدرات البث الإعلامي والرسالة الاتصالية من مواقع الأحداث، لكنها من جانب آخر، أخرجت الضغائن والخلافات العقدية الدفينة، وتوافه الغرائز والجنس من بطون كتب التراث ومن حانات الدعارة إلى أسطح المنازل وغرف المعيشة العائلية، تحت مظلة حرية التعبير، والاعتماد على انتقائية الأسر والمجتمعات.
في مقابل ذلك، برزت في دول أوربية – كانت ترفع لواء حرية التعبير – بوادر ازدواجية في المعايير، تبدّت في تكميم أفواه مؤرخين أرادوا أن يقولوا رأيهم في قضايا تاريخية مبالغ فيها، حتى بلغ الأمر بالموقف الرسمي والبرلماني إلى حد تجريم من يتعرض لتلك الروايات التاريخية بالتشكيك الأكاديمي الموثق بالحجج والبراهين، وامتد هذا التكميم قبل سنوات إلى ضرب آخر من ضروب تحجيم التعبير، تمثّل فـي حجب قنوات معينة بحجة أنها تعود لمنظمات إرهابية، في حين عُدّت قنوات الجنس والمساس بالأديان نوعا من صنوف التعبير الحر عن الرأي وحقوق الإنسان، لا ينبغي التضييق عليها أو المساس بها.
إن ما حصل بالنسبة لبعض المؤرخين، والقنوات من الحجب والتضييق خطوة غير مسبوقة ، تتنافى وأبسط قواعد حرية التعبير، بغض النظر عن الاتفاق معها أو معارضتها من قبل البعض منا، وهو موقف يعيد إلى الأذهان الموقف الشهير الذي أدى في السبعينات إلى خروج الولايات المتحدة الأمريكية من اليونسكو وتعليق عضويتها بسبب موقف مؤتمرها العام من حرية انسياب المعلومات في اتجاهين بين الدول النامية والدول مكتملة النمو.
وإن ما حدث في المشهد العالمي خلال الأعوام الماضية – مثل موقف بعض الدول من قضية ارتداء الحجاب في المدارس، والرسوم المسيئة للرسول الكريم، ورواية الآيات الشيطانية وفيلم ثيوفان جوخ الهولندي – يعطي دافعا قويا للتأمل العميق في بنية العلاقة الثقافية بين الشعوب. ويضع حرية التعبير والرأي في قلب الجدل العالمي بعد أن صارت تلك الحرية كبش فداء ورهينة ازدواجية المعايير، وما أمام هذا المنتدى إلا أن يشدد على المطالبة بالتركيز على القيم الإنسانية المشتركة، وعلى الفهم المتبادل لحقوق الإنسان، وعلى اعتماد الحوار والتفاهم آلية إيجابية دائمة بديلة للصراع، بحيث نحفظ لوسائل الاتصال الجماهيري حياديتها ورسالتها السامية في إشاعة التفاهم والسلام والتصالح مع النفس ومع الآخرين.
إن من حق أي إنسان أن يفكر كيفما يشاء، وأن يكتب لنفسه ما يشاء، وأن يرسم في منزله ما شاء له أن يرسم أو يصور أو يتخيل أو ينظم، ولكن عندما يتعلق الأمر بعرض ذلك على الآخرين بما فيه من إيذاء لعواطفهم أو مشاعرهم أو معتقداتهم، فإن ذلك ليس من حرية التعبير بشيء، لأن المرء يعيش داخل منظومة مجتمعه، وفي إطار من نظام عام ملزم بحدود القانون.
وإن ما يشاهده العالم اليوم من توتر أو امتهان عند مقاربة حرمة الأديان مع حرية التعبير، لا بد وأن يقودنا إلى ضرورة فهم موقع الأديان في نفوس شعوبها، وإلى أهمية فهم حساسية طرح التعاطي مع الأديان إيمانا أو تفسيرا أو تأويلا أو تصويرا أو ممارسة وتطبيقات، وإن من غير المنطقي أن يفرض على شعوب ذات ثقافات محافظة، أفكارٌ وقيمٌ تجافي خصوصيتها الدينية، كما هو حاصل اليوم في العلاقة بين أمريكا وأوروبا من ناحية والشعوب الإسلامية على الناحية الثانية.
إن هذه الكلمة لا توجه الاتهام إلى مجتمع بعينه أو طائفة دون أخرى، كما أنها تنأى عن مظنة الحجر على الفكر والإبداع، فالمسؤولية مشتركة، وما قد تراه شعوبٌ حريةَ رأي وتعبير تنظر إليه أخرى إساءة وتجديفا، إذا كان مما يتصل بالخلق أو العقيدة، ومن هنا جاءت مسألة اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد بين الشعوب.
وأمام هذا المشهد المضطرب في واقع الإعلام المعاصر، الذي تمادى في تفسير البعد الموضوعي لحرية التعبير، وبالأخص منه ما يمس المعتقد وكرامة الإنسان، تتجدد الحاجة إلى تصحيح المسار، ووضع ضوابط ملزمة لكل من يملك ناصية الاتصال الجماهيري، وإن المؤمل، وبعيدا عن التشنج وردة الفعل الانفعالية، أن يتقدم هذا المنتدى، ورغبة في إشاعة روح الحوار ودفع مساره، إلى منظمة اليونسكو – بوصفها الذراع الأممي الراعي لأمور الثقافة والتربية والإعلام – بدعوة يكون قوامها التوصل إلى أرضية مشتركة وتفاهم وتوافق دولي يفضي إلى الأفكار الآتية :
أولا: عودة الحوار في أروقة اليونسكو لما بدأته عام 2007م، من مناقشة مفهوم حرية التعبير وتصحيح مسار حرية الإبداع الفكري والفني، في إطار فهم مشترك لمضامين حقوق الإنسان وتآخي الحضارات.
ثانيا: السعي للتوافق على تحريم ما يمس الكرامة الإنسانية، مثل برامج العري المفضوح والجنس والشعوذة ونحوها في وسائل الإعلام الجماهيري.
ثالثا: السعي لتحديد مفهوم توظيف الإعلام لإشاعة الفكر الإرهابي والحض عليه.
رابعا: التوافق القانوني على أن يكون المساس بالمعتقد الديني والمذهبي والطائفي خطا أحمر لا يجوز تجاوزه في كل وسائل التعبير الجماهيري وأدواته، وعلى كل صعيد جغرافي.
خامسا: التأكيد على أن حق الفرد في التعبير، لا ينبغي أن يكون حقا معزولا عن الحقوق الجمعية الأشمل، وعن حفظ النظام العام للمجتمع، بأكثريته وأقلياته، وحماية حقوقهم، والترفع عن الإساءة إليهم.
ولا بد في الختام من التوجه بالدعوة نفسها إلى وسائل الإعلام الوطنية، داخل المجتمع الواحد، فما نشهده اليوم في دولنا الإسلامية من تنافر بين الطوائف أو بين النخب الثقافية، أو بين السلطة والمفكرين، من مطارحات تزكم الأنوف أحيانا بروائح التعصب، وتنكأ جراح الأحقاد، بشكل جعل أخطار الانقسام الداخلي يفوق الضرر الخارجي، يدعونا إلى أن نبدأ بعلاج أوضاعنا الداخلية قبل أن نطالب الآخرين بذلك، وأن نلتفت إلى إصلاح أمورنا قبل أن تنتقدها المنظمات والأنظمة الخارجية.
* إعلامي وباحث سعودي