أكن ـ مثل كثيرين جدا غيري ـ احتراما كبيرا لهيئة الاذاعة البريطانية B.B.C، اذاعة وتليفزيونا، وسبق ان خصصت للتعبير عن هذا الاحترام مقالات سابقة عدة لا يتسع المقام للتذكير بها.
ويوم الثلاثاء 2003/8/5، دعيت مع مجموعة من الاعلاميين العرب والسعوديين لمناقشة مشروع مركز الحوار الوطني الذي اعلن عن قيامه ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز.
وبالرغم من ان كاتب هذا المقال، لكونه خارج الوطن، لم يعايش اجواء اعلان تأسيس هذا المركز، الا انه كان سعيدا بالمشاركة، نظرا لكونه ـ اي المركز ـ يأتي استجابة لمقترح منتدى الحوار الوطني الاول الذي عقد في الرياض قبل شهرين، في بداية حضارية ايجابية عقلانية لتشخيص المشكلات الاجتماعية بمختلف انواعها الفكرية والثقافية بما فيها المذهبية.
وقد بدأ الحوار بثناء خاص من كاتب هذه السطور على اختيار الـ «بي بي سي» لهذا الموضوع، وعلى حرصها الدائم على طرح القضايا الوطنية التي تهم العالم العربي وبأسلوب موضوعي مستنير.
لكن الخدعة التي ـ بتغليب حسن الظن ـ نرجو الا تكون مقصودة من قبل مقدم البرنامج، حسن ابو العلا، في مكتب الاذاعة في القاهرة، هي في اضافة مجموعة مما يسمى بالمعارضة السعودية في آخر لحظة الى اسماء ضيوف الحلقة من «حديث الساعة» دون علم بقية الضيوف ومنهم كاتب هذا المقال.
لا اعتراض، من حيث المبدأ، على تصرف مقدمي البرامج الاعلامية في تعويض المعتذرين من الضيوف بغيرهم، لكن المعتقد ان من حق الضيوف معرفة زملائهم في الحوار، خاصة اذا ما كانوا من اطراف معارضة.
ومرة اخرى لا اعتراض، بل قد يكون مطلوبا من الناحية الاعلامية على تنويع اسماء المتحاورين، لكن الذي حصل ان البرنامج تناول امورا لا علاقة لها بموضوع النقاش، ثم استغل الضيوف الطارئون فرصة الحديث للقدح بالنظام السياسي للبلاد، دون ان يتسع الوقت للاطراف الاخرى بالرد، خاصة أنهم قد التزموا بمناقشة الموضوع مناقشة موضوعية بعيدة عن الاطراء والمديح.
ان ما حصل في برنامج (حديث الساعة) يوم الثلاثاء، بالرغم من مهنية تنسيقه واسلوب حواره الجيد، يجسد ظاهرة تقع فيها معظم الفضائيات الاذاعية والتليفزيونية والبرامج الحوارية التي تنتهي بنتيجة غير متوازنة، حيث يستغل البعض فرصة اشراكهم للخروج عن النص والجادة، بينما يلتزم غيرهم بأدب الحوار وموضوعيته فتكون النتيجة غير مريحة للطرف الملتزم، مما قد يدعوه للتردد كثيرا في الاستجابة للمشاركة في مثل هذا النوع من الحوارات المباشرة.
لست هنا بصدد الرد على ما قيل بحق مبادرة انشاء المركز المقترح، فهي وليدة من ناحية، والامر يتطلب عرض وجهات النظر كلها، لكنني اتصور انها مبادرة تستوجب الترحيب، خاصة انها تأتي استجابة سريعة لتوصية حوار وطني ناجح عقد في الرياض وناقش قضايا اجتماعية ملحة وشارك فيه مختلف اطياف المجتمع السعودي.
والفكرة في تقديري، ان لم تكن مسبوقة، تعد رائدة متقدمة في كونها تؤصل لقيام مركز لا ينشغل الا بمناقشة القضايا الاجتماعية الملحة والمنغصة التي قد تشكل بؤرة للغلو والتعصب والتطرف الديني والاجتماعي.
ويزيد من تقديرنا لهذه الخطوة ان المركز لا يعمل تحت وصاية رسمية، لانه سينشأ في حضن مكتبة الملك عبد العزيز العامة، وهي وقف خاص لا تخضع لرقابة اي جهة حكومية او امرتها، وهي جهة تعود منها المجتمع السعودي كثيرا من المبادرات الجريئة العلنية والموضوعية والعقلانية التي تصب في صميم المصلحة العامة ولا تحوم حولها.
والفكرة يتبناها رجل عرف عنه حب الحوار، وافساح الصدر للرأي الآخر وحتى المعارض، بل واحتواء العقلاء ممن اختاروا طريق الحوار سبيلا للتعامل مع المشكلات الاجتماعية.
سيكون المركز، كما هو مأمول منه، سندا للحكومة يمدها بالرأي الخمير الناضج وقناة للتعبير وهو وسيلة وليس غاية وليس في فكرته او في الاعلان عنه ما يدل على سرية مداولاته، بل ان تسمية المركز نسبة الى مؤسس البلاد (الملك عبد العزيز) لم يأت امرا عشوائيا او فخريا فقط، بل تذكيرا مدروسا بالرجل الذي حاور مناوئيه واصطفى منهم جلساء ومرافقين ووزراء.
والسعودية لا تعاني من مشكلة الطائفية او العرقية التي تعاني منها بلدان عربية اخرى، كالعراق وسوريا والسودان والمغرب، كما لا توجد فيها اشكالية الخلاف على الوحدة الوطنية، فقلوب الجميع فيها تخفق حفاظا على انجاز الوحدة السياسية التي تحققت ومع ذلك فقد اسمي المركز بتسمية (الحوار الوطني) وهي تسمية شاملة جامعة تستوعب مختلف انواع الحوارات.
والمركز، وفق مفهومه، لن يكون بديلا للتحاور الذي يتم في مؤسسات المجتمع المدني، وفي الجامعات وفي المؤسسات الثقافية، بل قد يكون محفزا لها، تماما كما كانت حوارات مهرجان (الجنادرية) ومداولاته ينبوعا وقناة اضافية للتعبير والحوارات الصريحة والعلنية العامة الناجحة.
مسكينة هي بعض الحكومات التي تريد ان تعمل، فهي مذمومة اذا عملت ومذمومة اذا لم تعمل.
ومسكينة هي المعارضة التي تنتقد كل شيء وتحكم عليه سلفا، قبل قيامه، ولاحقا بعد ان يقام، لأن هدفها الاول والاخير هو الفوضى وتعكير النظام.