يتناقل المجتمع السعودي منذ السبعينات قصصا ونوادر غاية في الظُرف عن تواضعه المتناهي ابان صلته السابقة بالوظيفة العامة لدرجة لا اعتقد ان احدا قد بلغها في بساطة العلاقة مع المواقع الرسمية المتتالية، وفي رقة التعامل مع الآخرين و«الحبابة» مع الناس.
من ذلك مثلا: ما قيل من أنه قد أتى الى الديوان الملكي بسيارة أجرة بينما كان في حينه يحتل مرتبة وزير، وقد أوقفه الحرس، لكن عبور الدكتور رشاد فرعون سهل الموقف، وقصته مع والدته عندما أخبرها بأنه اصبح مستشارا في الدولة فقالت له: خلف الله على حكومة تختارك مستشارا فيها، أو رواية مراسل امارة القصيم عندما قصده في مزرعته لايصال دعوة لاجتماع عاجل في الرياض، فوجده وهو في ملابس المنزل، يُعيد ـ فوق السلّم ـ دهان جدران بيت المزرعة، وكان المراسل ظن أنه أحد عمالها، ففوجئ بأنه «المطلوب» بعينه.
ذلكم هو العالم الورع، والقانوني الموهوب، الشيخ صالح الحصين، الذي ولد في شقراء عام 1351هـ (1932)، وأتم كلية الشريعة في مكة المكرمة عام 1374هـ (1954)، ثم نال الماجستير من مصر في الدراسات القانونية عام 1380هـ (1960).
وقد عمل مستشارا في وزارة المالية والاقتصاد الوطني (في عهد وزيرها الأمير مساعد بن عبد الرحمن)، واصبح في عام 1391هـ (1971) رئيسا لهيئة التأديب ووزير دولة وعضوا في مجلس الوزراء، وكلف برئاسة شعبة الخبراء في المجلس. ثم استراح من الوظيفة العامة فترة تقارب العقدين، تفرغ خلالها «للجوار» قرب الحرم النبوي الشريف، وللاحتساب في الدعوة، وكان يتسلى ـ كما سلف ـ بممارسة هواية الزراعة في القصيم ثم في المدينة المنورة بعد ان استقر فيها.
وكان قد أسهم ـ بخبراته القانونية ـ في تأسيس صندوق التنمية العقارية، وهو المصرف غير الربحي الذي أنشأته الحكومة منذ منتصف السبعينات، لتقديم قروض يعفى المواطن من نسبة (%20) منها اذا ما أوفاها بانتظام، وتولى الشيخ الحصين لفترة من الزمن رئاسة مجلس ادارته.
لكنه اعيد الى الخدمة العامة، في أشرف موقع يمكن ان يجمع فيه المرء بين سدانة الحرمين وخدمة الاسلام والمسلمين، عندما كلف عام 1422هـ (2002) برئاسة شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، ويظل حيث أمنيته بجوار الحرمين الشريفين.
وفي خلال هذه المسيرة، وقت الانشغال وحين التفرغ، كان الشيخ الحصين الباحث الجاد الذي لا تنقطع قراءاته واستنباطاته الفقهية، (وبخاصة في مجال الاقتصاد ونظرياته الاسلامية)، والداعية الذي لا تتوقف جهوده، والقانوني الذي لا ينفك من طلبات المشورة تنهال عليه من كل جانب، فترك بصمات واضحة في العديد من الانظمة الدستورية المهمة التي صدرت في البلاد خلال العقود الماضية، كما تولى رئاسة العديد من المجالس العلمية والدعوية، وهو عضو فاعل في مؤسسة الملك عبد الله لوالديه للاسكان التنموي. وعندما بدأت مسيرة الحوار الفكري في المملكة العربية السعودية عام 1424هـ (2004)، كان اصطفاء الشيخ الحصين رئيسا للجنة العليا لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني خير اختيار اضفى على المتحاورين مناخا من الطمأنينة والموضوعية والاعتدال، ثم نال تكريما رمزيا معبرا من جائزة الملك فيصل العالمية لنيل الجائزة مناصفة مع الداعية الكويتي الشيخ يوسف الحجي في خدمة الاسلام لهذا العام.
الشيخ الحصين يلم بالانجليزية والفرنسية، وعرف بغزارة علمه ومعلوماته الحديثة، وبالفكر المستنير، وبالاجتهاد الرشيد، وبالزهد عن مغريات الدنيا، وبالتفاني في اعمال البر والتطوع لها. يقول فيه عارفوه عن قرب، والمشاركون في ندوات الحوار الفكري المتعاقبة: ان من طبعه الجنوح الى الصمت، مغلبا ان يحتفظ بآرائه ليبديها عند الطلب، وان من عادته تلطيف مداخلاته بالطُرف والامثال، ومراعاة توجه الاغلبية في الاجتماعات الادارية التي يحضرها.
وهو رجل دقيق المواعيد، يحرص على حضور الاجتماعات مهما كان مقر عقدها، وكثيرا ما يسافر للمشاركة فيها ويعود في اليوم نفسه، وهو في أسفاره يبتعد عن المظاهر، ويتنقل بالدرجة السياحية، ولا يكلف احدا بمرافقته او خدمته او استقباله.
الشيخ الحصين شخصية ذات نسيج مختلف، يرى ان العمل الخيري والاجتماعي والانساني اكثر امتاعا له من الوظيفة الرسمية، ومن المؤكد انه لولا التزامه باطاعة ولي الأمر لما قبل الوظائف الحكومية، وهو ينتظر اليوم الذي يعفى منها، انه، وامثاله قلة، مدرسة في نكران الذات، في زمن يعج بالكبرياء وتضخيم الانجازات الشخصية.
اعرف من اخوة الشيخ صالح أخاه سعدا الذي يماثله كثيرا، فهو يشدو طرفا من الثقافة والمعارف الشرعية والعامة، وينذر النفس للدعوة الى الله، والانشغال بأعمال الخير والتطوع لخدمة الناس، كما اعرف شقيقهما المهندس عبد الله (وزير الماء والكهرباء السعودي)، الذي لا يقل عنهما فيما ذكر من الشمائل والخصال الكريمة.
وللشيخ الحصين أربع بنات، وابن واحد، هو الدكتور عبد الله الأستاذ في كلية الهندسة بجامعة الملك سعود.
* كاتب سعودي