العهد السعودي الجديد: آمال وتطلعات


مرت فترة ليست بالقصيرة كانت الضبابية تسيطر على الشأن الداخلي السعودي نتيجة الظروف الصحية التي سبقت رحيل العاهل الكريم الملك فهد رحمه الله، لكن الجميع كان يشهد ويلمس بأن متانة بيت الحكم السعودي قد اسهمت في تخفيف تداعيات تلك الحالة، وفي تسيير الامور الداخلية والخارجية بشكل جيد خلال السنوات العشر الماضية.

وكانت تلك المرحلة الصعبة بمثابة فترة تأهيل اضافي مكثف لولي العهد، الذي كان قد بدأ في مباشرة العمل السياسي والاداري منذ ان اختاره الملك فيصل رئيسا للحرس الوطني في الستينات، ثم عينه الملك خالد نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء في السبعينات، ثم اصطفاه الملك فهد وليا للعهد في مطلع الثمانينات.

كان الملك عبد الله يمارس ـ كما هو معروف ومتداول ـ معظم مسؤوليات الحكم بعد اعتلال صحة أخيه، حتى لم يعد الكثيرون يلحظون اي فراغ اداري، وتبنى في ظل ظروف مالية وأمنية وسياسية دقيقة كثيرا من الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، واتخذ قرارات أمنية حساسة، ولفت الانظار الى تحمله الشديد للظروف المحيطة ببلاده في اعقاب احداث سبتمبر، مع احترامه الشديد لوضعه الدستوري في ظل الحالة الصحية لأخيه، فكان ينسب كل انجازاته لما ظل يستشعره من توجهات ملك البلاد، ولم ينفرد باتخاذ قرار دون استشارة اهل الرأي والمسؤولية الادنى من حوله، واسهمت تلك الفترة في زيادة قربه من المواطنين والتعرف على احوالهم وتعرفهم هم على نهجه واسلوبه وافكاره.

كان يصغي، وكان يحسن الاستماع، وكان يحاور ويتقبل الافكار والمقترحات البناءة، وكان يتجول ويطلع عن قرب على احوال الناس، ويسر عليهم اسباب الوصول اليه، والتزم عمليا وقلبيا بسياسة الباب المفتوح، فصار بمقدور كل من يريد الاتصال به ان يسمعه شكواه او مطلبه، او يوصل اليه رأيه بأكثر من اسلوب وطريق ووقت خلال الاسبوع الواحد، بل لقد نافس من اهم ادنى منه في المراتب والمسؤوليات في القرب من المواطنين، واحسن تدبير الوقت، فضرب المثل في التوفيق بين التزاماته، وجعل الالتقاء بالاهالي في مقدمة مسؤوليات عمله واهتماماته.

وكان مما اسفرت عنه بعض حواراته وجولاته، وقوفه عن كثب على الاحوال المعيشية لبعض شرائح المجتمع من خلال زيارة الاحياء والحواضر الفقيرة، وطلبه من الجهات التنفيذية وضع حلول عاجلة واخرى بعيدة المدى لمعالجة اوضاعها، موصيا دوما بعدم الاغراق في الحلول الخيالية والنظرية، فلقد كان انسانا عمليا يريد ان يرى النتائج واقعا ماثلا بين عينيه دون ابطاء، حتى انه خصص على نفقته مؤسسة خيرية لوالديه متفرغة للاسهام في معالجة اسكان هذه الفئات، اعتقادا منه بأن ايجاد المسكن احد اهم وسائل ستر حال الفقير ماديا.

كما أيد فكرة اقامة مركز للحوار الوطني بين اطياف المجتمع ومفكريه، لتدارس المشكلات والاتيان بمقترحات متوافق عليها للتعامل معها، لكنه بالنسبة لموجة الارهاب التي ضربت البلاد في العامين الماضيين وقف بحزم جاعلا من أمن الوطن خطا احمر لا يمكن تبرير المس فيه، او المساومة به، او العبث، وكان من مقولاته ان جعل حرمة الوطن امرا يلي العقيدة في الاهمية والاحترام.

وكان من آيات توفيق الله له ولبلاده بعد ان آلت السلطة اليه ان تم التوافق على اختيار الامير سلطان وليا للعهد، وهو الذي يشترك معه بكثير من سمات الفروسية والبذل والانفتاح ويجمع خبرات متراكمة في الشؤون العسكرية والسياسة الخارجية، والتنمية الادارية والتعليمية، كما كان عضده الايمن طيلة فترة ولاية العهد ابان حكم الملك فهد، مما اشعر الجميع بالتفاؤل لتلازم هذا الثنائي المتكامل وتعاونه في العهد الجديد.

كما كان من علامات تيسير الله للعهد الجديد ان مطارق الارهاب قد بدأت تتهاوى بفضل ما أبدته السلطة من حكمة جمعت بين الحزم والبحث والمراجعة والتوجيه والمعالجة، وكان من حسن الطالع ان الوضع الاقتصادي للبلاد قد بدأ يسترد عافيته بعد ان عانت لفترة من تراكم الدين العام واختلال ميزان الانفاق مع الواردات.

ومع كل ما سلف من بوادر التفاؤل والارتياح لا بد من النظر بواقعية وشفافية الى ما يعترض العهد الجديد من صعوبات واعباء، الا اننا نصر ونقول انها ليست بالكثيرة ولا بالمعقدة، وكل ما تحتاج اليه هو مناخ هادئ للتفكير بالحلول العملية، وحصر الاولويات وايجاد الحلول المبسطة لها، ومن حسن الحظ ان الملك عبد الله كتاب مفتوح، فيه، ـ كما سبق ـ كثير من صفات والده في الواقعية والبساطة والرغبة في التخلص من العوالق، وايجاد الحلول العملية المرنة والنهائية.

لكننا قبل استكمال الموضوع، نتصور انه لا مناص من متابعة طريق الاصلاح، وعدم الامتعاض من الاخذ به والتصريح بسلوكه، فالاصلاح ان كان لخطأ فهو امر مطلوب من ولي الامر، وان كان يهدف للتطوير فهو شأن مرغوب فيه يحسن من الحاكم المبادرة اليه، والمهم في الامر ان ينبع من الداخل وان يحقق تطلع المواطن وتطوير مشاركته.

وفي تقديري، ان المدخل الاول الى مواصلة نهج الاصلاح يتمثل في تطوير الحياة الدستورية، بتعزيز وظائف مجلس الشورى بوصفه السلطة التنظيمية الاكثر حيدة وقبولا مجتمعيا ومنحه مزيدا من الصلاحيات الرقابية، مع النظرة في امكانية تحويله الى مجلسين يكون احدهما منتخبا بينما يضم الآخر خيرة الخبرات والتخصصات (التكنوقراطية) التي يفرزها المجتمع، والاهم من هذا وذاك ان يكون هناك فصل واضح بين السلطات الدستورية.

اما المدخل الثاني للاصلاح فهو التعجيل بتطبيق تطوير اساليب القضاء والشؤون العدلية المرتبطة به (المرافعات، المحاماة، التحقيقات) التي صدرتها انظمتها منذ سنوات، ولا تزال بانتظار التنفيذ أملا في تحسين البيئة القضائية التي تكفل حقوق الناس وتعجل في انهاء تظلماتهم.

اما المدخل الثالث فيكمن ـ رغم ما يبدو من تواضع اهميته مقارنة بما سبق ـ في استعادة قيمة الوقت في الجهاز الحكومي بشكل خاص، فلقد صار يهدر في دوام الموظف وفي العام الدراسي، حتى تحول كثير من النشاط عن استثمار الاوقات الطبيعية للنوم ولمباشرة الاعمال.

وفيما يخص قضايا اصلاح نظام التعليم، وتوطين الوظائف والصحة والضمان الاجتماعي والاسكان والمرور ومعالجة قضايا التطرف ونحوها، فإن اهتمام الدولة واضح في مواصلة تحسين اوضاعها، وهي لا بد ـ اي تلك القضايا ـ ستحظى بنصيب وافر من حرص العهد، الذي نصفه تجاوزا بالجديد والحال ان العاهل الذي آل اليه الحكم كان منذ فترة ليست بالقصيرة القائم بأعمال الملك.

* إعلامي سعودي