دبلوماسي وشاعر رومانسي وفنان مبدع، ولد في منتصف العشرينات في مدينة عنيزة بالسعودية، المدينة المعروفة ببيئتها المتمدّنة والمنفتحة، ثم نشأ في وسط متديّن في المدينة المنوّرة، فصار نموذجا خاصّا بين شباب جيله، يجمع بين المحافظة الاجتماعية من ناحية والليبرالية المنضبطة من ناحية أخرى.
تعرّض في منتصف شبابه – في أثر نسبة بعض القصائد الجريئة إليه – لهجمة شرسة من أحد المتشدّدين دينيّا، تسببت في تعطيل مسيرته الوظيفية المتصاعدة، ثم أصبح لاحقا سفيرا للسعودية لدى موريتانيا فالكويت وقطر والبحرين والأردن، وكان يحمل قلمه الشعري أينما حل، فأصدر في مسيرته الأدبية الطويلة مجموعة كبيرة من الدواوين، ثم صار عضوا في مجلس الشورى، وقد ألّف كتابا عن تاريخ الدرعية (العاصمة الأولى للدولة السعودية) في شكل دراسة قيّمة صدرت عام 1995، وظلت تحتفظ بقيمتها التوثيقية، كتب مقدمتها العلامة الشيخ حمد الجاسر، وكان العيسى أسهم في الستينات في كتابة عدد من البرامج التلفزيونية التي وثّقت الفنون الشعبية في الجزيرة العربية؛ بإيقاعاتها وأوزانها وألوانها.
بدأت علاقتي بالأستاذ العيسى – «الفهد التائه» اللقب الذي اختاره لنفسه – منذ أن كان حبيس إقامة اختيارية فرضتها عليه ظروف تلك الزوبعة المُثارة على بعض قصائده بسبب ما تضمنته – حقيقة أو مبالغا فيها – من جرأة «نواسيّة» لم تكن معهودة في حينه وإلى الآن، وبقيت تلك القضيّة حديث المجتمع الثقافي السعودي في تلك الفترة من الستينات، وقد استفاد التلفزيون – حديث النشأة آنذاك – وخلال عزلة العيسى هذه من معرفته بالألحان والأوزان الموسيقية، في محاولة لتدوين التراث والفنون الشعبية من كل أنحاء السعودية، كالخمّاري والدحّة والسامري والصوت والمزمار والعرضات وغيرها، مع تبيان الفروق الإيقاعية بينها ومقارنتها مع ما هو معروف من الألحان الحديثة والمقامات إن كان ثمّة علاقة بين أحدها، وأحسب أن معرفة الأستاذ العيسى بتلك التفاصيل كانت متقدمة في مجتمع نجد بالذات، لم يكن يجاريه فيها سوى طارق عبد الحكيم – صائغ الأغنية السعودية الحديثة وأبو الموسيقيين غير التقليديين – وذلك بالإضافة إلى موهوبين آخرين من أمثال عبد الله العلي الزامل ومطلق مخلد الذيابي.
كان اختيار أبي عبد الوهاب للعمل الدبلوماسي في عهد الملك فيصل، بدءا من موريتانيا (بلد المليون شاعر) خيارا يتناسب مع روح هذا الفنان الجريء، الذي ينسى كلما كتب القصيدة أنه يعيش في مجتمع متحفظ صعب، مع أن بين أيدينا نصّا قرآنيا صريحا بأن الشعراء «يقولون ما لا يفعلون» وإن من يطّلع على نصوصه الشعرية القديمة والمتأخرة، بما فيها ديوانه الأخير «عندما يُزهر الحب» يجد أن شاعرنا قد ظل «ابن الأربعين» القديم لم يتغير، مع أنه قد بقي دوما عمودا من أعمدة مسجده المجاور، الذي لم يكن في السنوات القليلة الماضية يصل إليه إلا على ذات أربع كهربائية، وكان في الوقت نفسه يكتب – كما فعل أبو العتاهية من قبله – في أغراض شعر التوبة، بقدر ما كتب في ضده (من شعر الغواية) فلقد كان حتى آخر يوم في حياته يحوز القدرات الذهنية والشعرية، ويصرف في لقاء ربه كل يوم أكثر مما يمضي مع أسرته ومجالسيه، وقد أكرمه الله باختياره إلى جواره في العشر الأواخر من الشهر الكريم عن عمر يقارب التسعين.
هذا الإنسان الذي لم تكن الابتسامة والنكتة تفارقانه، مرت به مصائب قاسية، كان من بينها فقد ابنه الأكبر عبد الوهاب وابنته الكبرى فوزية، وأخيرا سارة حفيدته من ابنه عبد الوهاب، وقد توفوا جميعا في «عز» الشباب، وفارق الدنيا يوم أول من أمس دون أن يعرف بوفاة الحفيدة قبل أسابيع.
لقد كان هذا الرجل يمثل نموذج الوفاء في حفظ الود، عندما لا يتردد، وهو يستند على عضد أحد أبنائه، أن يفاجئ محبيه، ولو عند الباب ليشاركهم أفراحهم وأتراحهم.