أن يكون ثلاثة في الأقل من أنجح رؤساء التحرير السعوديين، ماهرين من قبل في الصحافة الرياضية، فإنها لا تعدو أن تكون مصادفة، لا ظاهرة تستند عليها قاعدة، فكل ما في الأمر أن مهارات الإدارة والقيادة قد اجتمعت فيهم، فساعدت في نجاحاتهم المشهودة وفي توجيه صحفهم نحو الإبداع، ولا دخل للاهتمامات السابقة في ذلك.
ولقد ظلّت الصحافة السعودية إلى اليوم، تدور ضمن دائرة محدودة من قوائم قيادات التحرير، تتداول في اختيارها على الخبرات الناجحة في «الدِيسْك الصحافي»، وهو عامل مهني مهم في تدبير العمل اليومي للجريدة، وكان ينبغي ألّا تُغفل الكفاية الإداريّة، والمهارة السياسيّة، والمقوّمات الثقافية، والإدراك الكامل لظروف المجتمع وحساسياته، ومن هنا يصبح على الصحف وجمعيّات المجتمع المدني المعنيّة بالصحافة والإعلام، أن تتعاون لتوسيع دوائر اختيار القيادات الصحافية، من ذوي المؤهلات العالية والمتنوّعة.
واليوم، صارت حال الصحافة الورقية أمام تأثيرات الإعلام البديل، حديث المجتمعات، بعد أن أصبح وضعها المالي صعباً، ومقروئيّتها تتناقص بشكل ملحوظ، ولكنها قد تصارع من أجل البقاء، لسنوات تتّخذ فيها إجراءات تقشفية واندماجية وتغيير مسارات، ومن حسن حظها أن معظمها في العالم العربي تمتلك أصولاً ثابتة، وأن لدى بعضها محافظ واستثمارات رأسمالية، وأن من بين أعضائها رجالَ أعمال، يمكن أن يوجهوها وجهة استثمارية رديفة، ويفتحوا منصّات لموارد مساندة أخرى..
وكنت دعوت منذ سنوات – في مقالات منشورة، وفِي المجلسين التشريعيين (الشورى والإعلام، أثناء تحديث نظام المؤسسات الصحافية 2001) إلى دمج نظامي المؤسسات الصحافية ونظام المطبوعات في السعودية، وأن يتاح لها خيارا الملكيّة الفرديّة والجماعيّة، كما هو معمول به في كثير من دول العالم، بحيث تقترب الصحافة أكثر من أنظمة وزارة التجارة وتطبيقاتها، مع استمرار المسؤوليّة التنظيميّة لوزارة الثقافة والإعلام، وفق نظام المطبوعات.
اليوم، يرحل الجواد تركي بن عبد الله السديري، الكاتب الجريء، ذو المنهج التنويري، عن صهوة الحياة، في وقت هي أحوج ما تكون إلى مهارة ترويضه وعسفه، على منهج الحزم والرؤية الذي سار عليه عبر أربعة عقود حتّى تربّعت جريدة «الرياض» على قائمة الصحف الناجحة، فلقد وجّه دفّة تحريرها، وجنّبها الهزَات، وحقّق لها من التفوّق النوعي والتوزيعي والإعلاني ما جعلها تحتلّ مكاناً مرموقاً في جبين الصحافة العربيّة، حظيت باحترام القارئ، وخرّجت جيلاً من الصحافيين في مختلف قطاعاتها، وأرست دعائم التوثيق عبر مركز المعلومات فيها، وكان في إدارته ونهجه أكاديميّة مهنيّة مستقلّة، محتفياً بالتنوّع الثقافي والطائفي للمجتمع، ومبتعداً عن الإقليميّة، وعلامة مضيئة بين أقرانه.
ولقد نجحت مؤسسة اليمامة الحاضنة لـ«الرياض» في تجنيب احتياطي رافد يُعزّز أعباء المؤسسة وطوارئها وتطويرها.
وعلى خطى المعلّم، تتجه الأنظار اليوم، في ظلّ الظروف الصعبة التي تعيشها الصحافة الورقيّة، إلى التلاميذ الذين آلت المؤسسة إلى عهدتهم، على أمل أن يحافظوا على مدرسته وأسلوبه، وكل التقدير لهيئة الصحافيين السعوديين التي كانت تفكّر في تكريمه بلفتة حميمة لرُبّانها السابق، لكن القدر كان أسبق.
* إعلامي سعودي