المعاجم والموسوعات


في بداية ظهور اسم الشيخ العبودي في الوسط الثقافي السعودي، مطلع الثمانينات من القرن الهجري الماضي (الستينيات من القرن الميلادي المنصرم)، حينما تلقّى القارئُ كتابَه الجامع الأوّل المكوّن من خمسة أجزاء: الأمثال العامية في نجد (1379 هجرية – 1960م)، وهي الفترة التي ظهر فيها نجم روّاد من أمثال عبدالقدوس الأنصاري وحمد الجاسر وعبدالله بن خميس وغيرهم، كان الإحساس لدى بعض القرّاء أنهم يقفون أمام مؤلف دؤوب مثابر رصين جديد، سيكون له شأنه في عالم التدوين والتوثيق والتأليف، والوقوف بنفسه على المواقع والمعلومات والبحث عن الوثائق والمخطوطات، جنباً إلى جنب مع كبار المؤلّفين الجادّين الآخرين، وقد أعيدت طباعة كتابه الأول هذا مرات عدة؛ ما مهَّد الطريق أمامه لمزيد من البحث في تتبع الأمثال الشعبية في الجزيرة العربية.

ثم بدأ القرّاء يتلقّون سلسلة طويلة من كتب، خصّصها للبلدانيات، واصفاً فيها مختلف دول العالم التي زارها داعية منتدباً من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة منذ تعيينه فيها عام 1380 هجرية (1960م)، ثم فيما بعد من الهيئة العليا للدعوة الإسلامية بعد ارتباطه معها عام 1394 هجرية (1974م)، ورابطة العالم الإسلامي بعد تعيينه مساعداً لأمينها العام سنة 1403 هجرية (1983م). وقد شكّلت تلك السلسلة في مجموعها، الذي تجاوز مئة وعشرين كتاباً، أول موسوعة من نوعها في وصف تلك البلدان ومجتمعاتها وأحوالها المعيشية والثقافية، بل لعلها كانت أوسع إنجاز علمي عربي فردي في ميدان (البلدانيات والرحلات)، واقترن هذا العمل بتحويله إلى برنامج إذاعي مُحبَّب للمستمعين، ساعد في تعريفهم بتلك الشعوب وبمؤلف تلك المجموعة، التي لا يمكن النظر إليها في مجملها إلا بمقياس الموسوعات.

ثم شارك العبودي في المشروع العلمي الكبير الذي تبنّاه الشيخ حمد الجاسر (المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية)، واشترك فيه نخبة من كبار المؤلفين السعوديين، وكانت ثمرة نصيب الشيخ العبودي من هذا المعجم ستة مجلدات تصف جغرافية منطقة القصيم، وتُفصّل في اقتصاديات الإقليم وتاريخه وتركيبة سكانه وعاداته وتراثه الشعبي، وقد صدر هذا المعجم الخاص بالقصيم سنة 1399 هجرية (1980م) عن دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، فصار ثالث عمل موسوعي له، وأول معجم من نوعه عن جغرافية المنطقة، وهنا حقّق الشيخ العبودي ريادة جديدة بين أمثاله العرب في مجالات المعاجم والموسوعات، وأدب الرحلات، وتدوين الأمثال والموروث الشعبي، وفي عالم التأليف الذي تجاوز فيه (200) كتاب حتى الآن. فتّقت هذه الأعمال الموسوعية الثلاثة قريحة الشيخ العبودي لمزيد من المشاريع المماثلة؛ فاتجه في جهوده التالية إلى مجال انفرد فيه بين أمثاله من المؤلفين العرب، وهو التخصص في التأليف الموسوعي الغزير.

الموسوعات والمعاجم، كما هو معروف، هي أعمال معرفية من مجلدات عدة، مصنَّفة ومفهرسة، تدور حول موضوع معيَّن، وهناك عشرات الموسوعات العربية والإسلامية والعالمية الشهيرة، والموسوعات في الغالب جهد يسهم فيه عدد من المؤلفين في التخصص ذاته، وإذا ما قام به مؤلف واحد فإن من النادر أن يدأب على تأليف أعمال أخرى، لكنه قد يستمر في تحديثه والإضافة عليه.

أما بالنسبة للشيخ العبودي، المولود في بريدة بالقصيم عام 1345 هجرية (1926م)، فقد اتجه لارتياد العمل الموسوعي والمعجمي، متفرّداً بعدد من الميزات، من أهمها تعدُّد المواضيع وتنوّعها، وأنه نحا في منهجه منحى مستقلاً يخدم التراث والبيئة التي نشأ فيها (القصيم خصوصاً ونجد عموماً)، والمعتقد أنه كان يعتمد على نفسه وعلى إمكاناته الذاتية في الجمع والتنقيح والكتابة والتصحيح والأمور الفنية الأخرى، متحمّلاً بنفسه نفقات ذلك، باستثناء ما تمَّت طباعته على نفقة دارة الملك عبدالعزيز، أو مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، أو دار اليمامة للبحث والترجمة والتأليف، التي أنشأها حمد الجاسر سنة 1386 هجرية (1966م).

لكنه منذ سنوات قريبة، صار يتلقّى مساعدة فنية سرّعت في طبع مخطوطاته الموسوعية التي كانت تنتظر دورها في الصدور؛ إذ بادر المحامي المعروف د. محمد المشوّح إلى مدّ يد العون «اللوجستي» له في مجال الصف والإخراج الإلكتروني، وأنشأ موقعاً إلكترونيّاً باسم شيخه، ومكتبة متخصصة لتوفير كتبه للقراء، والمرجو أن يسارع محبوه في إنشاء مركز ثقافي يُعنى بثراثه الغزير، ويعمل على تحديثه بين حين وآخر، وعلى إجراء الدراسات عليه، وكان د. المشوّح قد أصدر في عام 1424 هجرية (2004م) كتاباً شاملاً في حينه عن سيرة الشيخ العبودي، حمل عنوان: «عميد الرحالين».

تجاوزت قائمة مؤلفات العبودي، التي صدرت حتى الآن، رقم المئتين كما سلف، وهي تضم بعض الموسوعات، إلا أن لديه موسوعات أخرى لا تزال مخطوطة، ويستفاد من موقعه الإلكتروني أن مجموع ما أعده منها قد يتجاوز الثلاثين، صدر منها حتى الآن نحو خمسة وعشرين معجماً ما بين صغير وكبير، تتعلق بالمرأة والإنسان وصفاته، وبالأقارب والأصهار، وبالحِرف والصنائع، والشجر والنبات والحيوان، والمال والتجارة، والعلم والجهل، والمنازل والديار، ووجه الأرض والمطر والسحاب، وألفاظ الحضارة والإبل، والنخلة والفروسية والقتال، والطعام والشراب واللباس، والمرض والصحة، والأنواء والفصول، والديانة والتديُّن، وكذلك غريب الألفاظ في نجد، وغريب الألفاظ والأمثال ذات الأصول الفصيحة وحِكَم العوام.

كان معجم «أسر القصيم» أكبر موسوعاته على الإطلاق من حيث الحجم والشمولية؛ إذ يضمّ خمسة أقسام، صدر منها حتى الآن القسم الأول الخاص بأسر بريدة في ثلاثة وعشرين مجلداً، وينتظر أن تصدر أقسامه الأربعة الباقية لاحقاً، لتُغطي أهل القصيم كافة، شماله وجنوبه وشرقه وغربه، ويتكوّن كل قسم منها من ثلاثة إلى سبعة مجلدات.

الشيخ العبودي وُلد ونشأ في بريدة بمنطقة القصيم، إذ الاقتصاد في إقليم نجد يعتمد – كما هو معروف – على الزراعة، أو على التجارة بالنسبة للمقتدرين، وظهر في القرون الماضية نوع من التجارة اشتُهر باسم (العقيلات)، عنوانها الإبل والخيل والمُؤن، تقوم على التبادل مع بلاد الشام ومصر، برز معظم رجالاتها من أهل القصيم، وخصوصاً من أُسر بريدة، مثل الحجيلان والرواف والرشودي والربدي والقرعاوي والجربوع، وقد تحدث الشيخ العبودي عن ظاهرة «العقيلات» في كثير من كتبه؛ إذ شارك والدُه فيها، ولا بد أن في جعبة الشيخ مخطّطاً لأن يخُصّها بإحدى موسوعاته، إضافة لما كتبه عنها إبراهيم المسلّم ونواف الحليسي وإبراهيم المعارك – وكلهم من بريدة – إلا أن ارتباط أسرته بالزراعة جعله يعطيها الأولويّة، فظهر له في العام الماضي (1432 هجرية 2010 م) معجم عن النخلة في المأثور الشعبي، يقع في 360 صفحة، استفاد في تأليفه من معلوماته المتراكمة في القرية النجدية (وفي خبوب بريدة خصوصاً) من ممارسة زراعة النخيل وكل ما يحيط بها، كالبذور والتربة والسماد والحصاد والتلقيح والتهذيب والغرس والأدوات والمواسم والبروج والعادات المتصلة بذلك، إذ تكون زراعة النخيل والتمور حديث المجتمع ومناقشاته وتبادل الخبرات بشأنها.

وغير بعيد عن هذا الموضوع، أصدر الشيخ العبودي عام 1431 هجرية (2011م) من مطبوعات مكتبة الملك فهد الوطنية (معجم الحيوان عند العامة) مكوّناً من جزأين، ومشتملاً على كل ما يتعلق بهذا الموضوع من جُمل وألفاظ وتعبيرات وأمثال وأشعار وحكايات ومعارف، وهو مرة أخرى يستمدّ معلوماته في هذا المعجم مما هو سائد عند العامة في دائرة نجد، والقصيم خصوصاً، وقد رتّب مفرداته بحسب ترتيب حروف الهجاء.

خصّ الشيخ العبودى التراث اللغوي بعدد من كتبه وبحوثه، منها ما صدر، ومنها ما ينتظر مغادرة أدراج مخطوطاته، وكان معجمه المكوّن من مجلّدين كبيرين: كلمات قضت (أي توقّف استعمالها)، الصادر عام 1424 هجرية (2004 م) عن دارة الملك عبدالعزيز بالرياض، من أجمل أبحاثه اللغوية الأصيلة؛ إذ تتبّع فيه ألفاظاً عامية كانت دارجة الاستعمال في القرون الماضية ثم انقرضت أو كادت، لكنه مرة أخرى – كما أظن – يركّز معظم ما تتبعه من مفردات في هذا المعجم على اللهجة المحلية (القصيمية)، وهو ما تداركه في معاجم أخرى. أما بحثه الأشمل والأوسع في هذا الميدان فهو (معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة، أو ما فعلته القرون بالعربية في مهدها)، الذي أصدرته مكتبة الملك عبدالعزيز العامة في الرياض عام 1431 هجرية (2010م) في ثلاثة عشر مجلّداً، وبحثه الثاني (معجم الأصول الفصيحة للأمثال الدارجة)، المكوّن من ثمانية أجزاء، و(معجم الكلمات الدخيلة في لغتنا الدارجة)، الذي صدر سنة 1426 هجرية (2005م) في مجلدين.

وبعد: فلقد كشفت موسوعاته التي استعرض المقال طرفاً منها أن العبودي كان يدوّن المعلومات ويُخطط منذ شبابه، استعداداً لمثل هذا العمل الموسوعي، بإعداد أرشيف منفرد متكامل لكل موسوعة من موسوعاته، التي غلب عليها التركيز على الأنساب، أو على التراث الشعبي (المادي)، وأن المؤلف كان يستقي معلوماته من مخزونه القديم في البيئة التي عاش فيها وهي منطقة القصيم، الخبير بأحوالها وثقافتها، وقد عاش سني شبابه فيها، فموسوعاته بهذا تُعدّ، في الواقع، مصدراً مهماً في دراسة بيئة المؤلف وثقافتها ولهجتها التي تنفرد بها بين سائر مناطق المملكة، عندما يقال مثلاً إن لكل إقليم لهجة تختلف في نطقها ومعاني بعض مفرداتها عن لهجات بقية أقاليم نجد (حائل وسدير والوشم والحوطة وغيرها).