اليمن في تراث حمد الجاسر من كتاتيب الرياض الى المجامع العربية


لعل أول ما يتبادر إلى تفكير من يرى زعيمًا فذًا، أو مخترعًا رائدًا، أو علامة نابغة، هو التمني لو خلقهم الله بالأعداد، أو لو استُنسخ هؤلاء الأفذاذ.هذا هو لسان حالنا في المملكة مع حمد الجاسر، العلامة الذي مضى على رحيله ثمانية أعوام، وما زلنا نلهث – يومًا بعد يوم – لاكتشاف أعماله، ونركض وراء رصد إنتاجه، ولم ندرك – بعدُ – كل آثاره بالرغم من صدور كتابين يضمّان عناوين بعض أبحاثه ودراساته في حدود (4000) مدخل لا تشمل ما كتبه في مجلات “اليمامة” و”العرب” و”المجلة العربية”. والحديث عن اليمن في كتابات هذا العلامة، لا تكتمل دون مقدمة تعرّف به عالمًا قضى سبعة عقود من عمره، الذي جاوز التسعين، في خدمة تراث الجزيرة العربية، حتى تضاءل نظره في مطالعة مخطوطاته، وتقوّس ظهره في كتابة بحوثه، وشاء الله أن يجعل البركة في سني حياته حتى غادر الدنيا ممسكًا بقلمه، معلقًا نظارته يحدّق في أرفف مكتبته، وقلبه معلق بثريا الفكر وقمم التراث.
نتقبّل أن يكون العوز المدقع حافزًا للإبداع والنبوغ عند النابهين والموهوبين، أما عندما تكون البيئة المحيطة بالمرء ساحقة، كقسوة بلدات نجد حتى العشرين الميلادية من القرن الماضي، يعشعش فيها المرض والتخلف والجهل مع الفقر. فتلك بالتحديد كانت حالة شخصية هذه المحاضرة، حيث يهجر الشاب حقل والده وناعورته، ليطلب العلم في كتاتيب الرياض ومساجدها عام 1342هـ (1922م)، وكان في الوقت نفسه يعلّم الصبيان ويؤم النساء في بيت ثري ليؤمّن لقمة عيشه ونفقة أسرته، ويصبح مطوِّعًا في البادية، ويلازم قاضي هجر (مستوطنات) إقليم السر في عالية نجد، وذلك إبان فورة التشدد الديني (حركة الإخوان) في تلك النواحي. ثم يبلغ به الطموح مبلغه، فيتطلع إلى الحرم الشريف سنة 1349هـ (1929م)، لينهل من علمائه، ويختلف إلى مشايخه، يتنقل من حلقة إلى حلقة، ومن عالم إلى عالم، ومن مكتبة إلى مكتبة، ليشبع نهمه في طلب المزيد؛ حتى إذا ما شدا طرفًا من علوم الفقه يستجيب – على مضض – لتعيينه قاضيًا في ضباء في شمال الحجاز، فتكون له مع القضاء صولات يحركها عزوفه عنه، وجولات تحرّضه عليها مواقفه وآراؤه واجتهاداته وأفكاره المستنيرة في أساليب ممارسات معاصريه من القضاة.

وإذا كانت نقطة التحول الأولى في حياته هي انتقاله من القرية والريف إلى المدن، فإن عمله مدرسًا في ينبع عام 1362هـ (1943م)، كانت نقطة تحول أخرى نحو البحوث الجغرافية والتاريخية؛ فبدأ – وعلى مدى خمسة عشر عامًا – يتنقل من عمل إلى عمل بحثًا عن هوية علمية يرسو عليها، فجرّب البعثة إلى مصر التي عطّلتها الحرب العالمية الثانية، ومارس التدريس في جدة، وعين مديرًا عامًا للتعليم في الأحساء، وفي الظهران، وفي نجد،وأسس مكتبة في الرياض، وأصبح عميدًا لأول كلية للشريعة واللغة العربية في الرياض.

وبزغ نجمه في سماء العالم العربي بوصفه جغرافيًا ومؤرخًا وباحثًا، فاختير عضوًا في المجامع العلمية واللغوية في العراق وسوريا ومصر والمغرب وغيرها، ثم يتحلل من كل الوظائف الرسمية ليتفرغ للصحافة والطباعة والنشر والتأليف، فينشئ عام 1372هـ (1952م) أول صحيفة في الرياض وأول مطبعة فيها سنة 1374هـ (1955م)، ويؤسس بعد خمسة عشر عامًا، أول دار للترجمة والبحث (دار اليمامة 1386هـ/1966م)، ويصدر مجلة “العرب” التي أكملت الآن عامها الثاني والأربعين، ثم يمضي نصف عمره المتبقي (أي ما يقارب نصف قرن) متفرغًا للبحث والتأليف، والرحلات العلمية، ويطوف أرجاء العالم للبحث عن المخطوطات وزيارة أمهات المكتبات العالمية، فينشر (45) كتابًا من تأليفه، ويشرف على (17) كتابًا من تأليف آخرين، ويحقّق (10) من كتب التراث. وقد خلّف مجلدين سجل فيهما ذكرياته حتى مطلع الستينات الميلادية من سوانح الذكريات (1427هـ -2006م، وقد نشر مجزّأً في المجلة العربية). وكان من آثاره العظيمة: المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية، الذي ألفه وأسهم معه (5) آخرون، وتكوّن من (40) جزءًا، نصيب الجاسر منها معجمان عن شرق الجزيرة وشماليها الغربي.

وينال جائزة الدولة التقديرية في الأدب سنة 1403هـ (1983م)، ويكرمه قادة مجلس التعاون الخليجي سنة 1410هـ (1990م)، ونال جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب سنة 1416هـ (1996م). وقد توفي، رحمه الله، سنة 1421هـ (2000م)، ليبقى علمًا خالدًا من أعلام هذه الجزيرة، ويظل فكره معينًا للأجيال، بعد أن كتب في الجغرافيا والتاريخ والأدب والتراث والأنساب واللغة والرحلات.
ومن المحطّات المؤثرة في حياته اختياره العيش في لبنان خلال الستينيات ووفاة ابنه الأكبر (محمد) في حادث طائرة في لبنان واحتراق مكتبته في لبنان أيضًا. وقد أقيمت في الرياض مؤسسة خيرية ومركز ثقافي باسمه، مع استمرار دار اليمامة في إصدار مجلة “العرب”، والمحافظة على جلسته الثقافية ضحى كل يوم خميس.

ورصدت في المكتبة الخاصة للشيخ حمد الجاسر نحو (103) من أوعية المعلومات ما بين مخطوطة وكتاب وتقرير ورسالة، تتعلق باليمن بعامة أو بمحافظة حضرموت بخاصة. ولعل من أهم ما يتوافر فيها من مخطوطات يمنية – وفق تقدير د. عبدالعزيز المانع التقريبي – هي كتاب: الإكليل للهمداني، وبضائع التابوت في تاريخ حضرموت للمفتي عبدالرحمن بن عبيدالله، والسفينة في نسبة بعض القاطنين في وادي حضرموت المبارك ومساكنهم للشهاب أحمد بن الحبيب العطاس، ومخطوطة أخرى بهذا الموضوع من تأليف عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف المتوفى عام 1375هـ (1955م)، وكتابا: الجوهرتين المائعتين وصفة جزيرة العرب للهمداني، وكتاب قديم هو: العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية لعلي بن الحسن الخزرجي المتوفى عام 812هـ (1409م)، وكتاب آخر قديم هو: قرة العيون بأخبار اليمن الميمون للزبيدي، المتوفى عام 943هـ (1536م)، وقد حققه الأكوع مطبوعًا في المطبعة السلفية.

ولقد كانت الرحلات إحدى المصادر المهمة في معارف الجاسر، وفي زيارة المكتبات العالمية واقتناء المخطوطات، وكتب الدكتور شاكر الفحّام بحثًا عن رحلات الشيخ ضمن ندوة عنه أقيمت في دمشق عام وفاته.

وقد أصدر الجاسر ثلاثة كتب دوّن فيها مشاهداته في رحلاته، فكان مما يلفت النظر عند استعراضها أنه تنفرج أساريره كلما مرّ على رفّ ذي صلة بحضارة اليمن وثقافته، أو مخطوط أو مرجع مهم من تراث جنوب الجزيرة العربية الغني بكنوزه المعرفية الأصيلة؛ فنجده عندما زار «مكتبة الفاتيكان» عام 1400هـ (1980م) ينقل إلينا بعض ما فيها من مخطوطات، مثل: ديوان علي بن المقرّب الذي خطه محمد بن سعيد بن صالح القلقيلي من (شهارة) في اليمن.

وها هو ذا مثلاً، في عام 1404هـ (1987م) يحرص في ميونيخ على زيارة «معرض الحضارة والفن اليمني» على مدى ثلاثة آلاف عام، المقام هناك في ذلك العام.
وفي «مكتبة المجمع العلمي الإيطالي» يتوقف عند ثلاثة رفوف اشتريت مخطوطاتها من اليمن، ومنها: تاريخ صنعاء للرازي وصفة جزيرة العرب للهمداني، ثم يجد في جامع بومبي عام 1399هـ (1979م) مخطوطة كتاب: تاريخ اليمن للرازي وديوان الشاعر محمد بن حِميرَ، فيمعن في وصفهما. وفي كتابه: في الوطن العربي عن رحلاته، يخصص (22) صفحة لوصف مشاهداته في زيارته الأولى لليمن عام 1406هـ (1986م)؛ فنراه يشبع نهمه في تتبع المخطوطات وزيارة المكتبات ولقاء أرباب التراث والتاريخ.

ولعل من أهم ما نشره وحققه الجاسر من تراث ذي صلة باليمن، هو كتاب: البرق اليماني، وهو كتاب في تاريخ اليمن في القرن العاشر الهجري متضمنًا أخبار غزوات الشراكسة والعثمانيين التي عاشها مؤلف الكتاب عالم مكة العدني الأصل قطب الدين محمد بن أحمد النهر والي المتوفى عام 990هـ (1582م)، فلقد حققه وأضاف إليه الهوامش والشروح والفهارس معتمدًا على أربع نسخ خطية، وقدّم له بمقدمة قاربت (80) صفحة. ولا يكتمل الحديث عن هذه المنطقة في كتابات حمد الجاسر، دون الإشارة إلى أحد أبنائها (عبدالله بلخير المولود في حضرموت عام 1913م) وعلاقة المد والجزر التي سادت بينهما منذ أيام دراستهما معًا في «المعهد السعودي» و«مدرسة الفلاح» في مكة المكرمة، أوائل الثلاثينات الميلادية من القرن الماضي، فبينما يعترف الجاسر بشاعرية بلخير، نجده لا يتردّد في أن ينقد قصيدة قالها بلخير في مدح الأمير (الملك) فيصل آنذاك، ورد في مطلعها:

تحيّرت فيما أستهل به شعري

وقد راعني هول المقام فلم أدري

جلال ونور شعّ من كل جانب

فأخرس أرباب القوافـيّ والنثر

فيرد عليه الجاسر بقوله في قصيدة مطلعها:

وليس (الفلاحي) امرءًا حاز ميزة