اليوم الوطني السعودي.. تعانق البعدين الديني والحضاري


في الثالث والعشرين من سبتمبر (الأول من برج الميزان) من كل عام، تمر ذكرى اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية، التي أعلن عن توحيدها عام 1351هـ (1932م)، وبهذا يكون قد مر على توحيدها ثلاثة وثمانون عاما هجريا (واحد وثمانون عاما ميلاديا) ومضى على وفاة مؤسسها (الملك عبد العزيز) ستون عاما ميلاديا.
وكانت هذه الدولة المعاصرة التي تشكل مساحتها معظم شبه الجزيرة العربية، قد عاشت قبل ذلك التاريخ ومنذ عام 1902م ثلاثة عقود، تخللتها تحركات عسكرية ومناورات سياسية ومخاضات اجتماعية، تعد بمثابة فترة تحضيرية لتأسيس الكيان الجديد، كما كانت الإمارة السعودية في قلب الجزيرة (نجد) قد مرت قبل ذلك بمرحلتين سابقتين أطلق عليهما عرفا الدولتان الأولى والثانية، دامت كل واحدة منهما نحو 70 عاما وصل الحكم السعودي فيهما غربا إلى الحجاز، وجنوبا إلى أطراف حضرموت، وشرقا إلى ساحل عمان، وشمالا إلى نواحي بلاد الشام والعراق، وقد سقطت الدولة الأولى بغزو تركي، وتفككت الثانية بعوامل داخلية وخارجية.
وقبل الدخول في مدلول العنوان، لا بد من المرور على الصورة الذهنية التي كثيرا ما تعلق في أذهان الآخرين عن هذا الكيان، من أنه كيان «وهابي»، وهو مصطلح أطلقه عليه الخصوم ممن عاصر تطور نشأة الدولة السعودية خلال ثلاثة قرون، في نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1703 – 1791م) الذي عقد مع جد آل سعود (أمير الدرعية قرب الرياض) حلفا دينيا سياسيا أدى إلى اتساع إمارة نجد في مرحلتها الأولى، بدءا من منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وصار هذا المصطلح، «الوهابية»، وصفا يرافق المناوشات التي تلامس قوات الإمارة – في عهودها الثلاثة – أطراف الحجاز والعراق واليمن وبلدان الخليج، وكانت وكالة «رويترز» أعادت قبل أيام نشر خبر كانت قد بثته عند سيطرة الملك عبد العزيز على الرياض (1902م) ووصفته بالأمير الوهابي.
وكان ممن صرح مدافعا عن هذا التعبير بعيد تكوين الدولة في بدايات القرن الماضي الشيخ السلفي محمد رشيد رضا اللبناني الأصل والنشأة المصري الإقامة، وصاحب مجلة «المنار» المتوفى في مصر عام 1935م في كتيب أصدره بعنوان «الوهابيون والحجاز» في مائة صفحة، في عام 1925م، وهو العام الذي دخلت فيه مملكة الحجاز في الحكم السعودي، كما أصدر عبد الله القصيمي (صاحب الكتب الشهيرة ومن ضمنها: «العرب ظاهرة صوتية»، والمتوفى في القاهرة عام 1996م) كتابا في عام 1936م بعنوان «الثورة الوهابية»، وهو كتاب ينافح عن الدعوة السلفية ويمجدها، وذلك قبل أن تتحول توجهات المؤلف إلى التذبذب، لكن مقالات ومؤلفات عدة لا يتسع المقام لعرضها، خاصة من مصر والعراق والهند وبلاد الملايو وإيران، صدرت منذ بداية الدعوة وعبر القرون.
وباستثناء ما ذُكر، يمكن القول بوجه عام، إن المصطلح قد خفت استعماله داخليا في العقود السبعة الماضية، بسبب موقف الحكومة السعودية الممانع لإسقاطه على التوجه الديني أو المذهبي للمجتمع، فالموقف الرسمي، وإن حبذ الأخذ بالمذهب الحنبلي المعروف بالتحفظ في جانب العبادات والتسهيل في أمور المعاملات، وهو المذهب الذي ساد نجدا بعد قيام الدعوة، إلا أن الحكومة ما برحت في قوانينها تأخذ بالأرجح المؤصل من المذاهب الأربعة، وتؤكد في الوقت نفسه على رفض اعتبار «الوهابية» مذهبا مستقلا، ولا تستسيغ إطلاقه عنوانا على المؤسسات الدينية في البلاد، وهي تكتفي بالإشارة إليه في خطابها الاجتماعي على أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مصلح ومجدد (على غرار الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده اللذين ظهرا بعده بمائة عام) ولا تقيم أوزانا احتفالية له، وربما أسهم تشدد بعض الملتزمين ومبالغتهم لاحقا في الأخذ بالتعاليم الدينية في تغيير وجه الدعوة بمجملها، وبالتالي في تشويه المصطلح في المجتمعات الأخرى، وكان مما أضاف إلى هذا التشويه وجود دعوة سابقة – إباضية كما ذكر – في دول شمال أفريقيا كانت تسمى بالوهابية أيضا نسبة إلى عبد الوهاب رستم (ظهر أواخر القرن الثاني الهجري).
ثم انبعث المصطلح محليا من جديد خلال الأعوام القليلة الماضية، مع ظهور مجموعة من الكتب الصادرة في السعودية، صرح مؤلفوها بمصطلح «الوهابية» في عناوينها، ومن بينها كتاب عن الخيل والإبل والبدو والوهابيين للرحالة السويسري المسلم بوركهارت، الذي جاب الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر الميلادي، وترجم د. عبد الله العثيمين (1993م) جزءا منه بعنوان «مواد لتاريخ الوهابيين»، وهو كتاب محايد يفند – بإنصاف – الدعاوى المناوئة للوهابية، وكتاب «دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الإحياء والإصلاح إلى الجهاد العالمي» للدكتورة ناتانا ديلونج الصادر عام 2004م، وترجمه د. عبد الله العسكر، وصدر عن دارة الملك عبد العزيز بالرياض في العام الماضي (2012م)، وكتاب «الدعوة الوهابية» لديفيد كومينز، صدر في نيويورك (2006م) وقام د. العسكر كذلك بترجمته في العام الماضي (2012م) أيضا، ولعل الكتابين أوسع كتابين حديثين كتبهما مؤلفان غربيان من منظور تاريخي محايد عن الوهابية، وكتاب «الوهابية: بين الشرك وتصدع القبيلة» لأستاذ علم الاجتماع (السياسي) د. خالد الدخيل، وهو كتاب أكاديمي يثير التأمل حول دقة الروايات المحلية المتداولة عن منطلقات نشأة الوهابية، مسترشدا بما كتبه قدامى المؤرخين المحليين المجايلين لها، والكتاب في أساسه رسالة دكتوراه للمؤلف (1998م) صدر بالعربية مطلع هذا العام في 560 صفحة.
غير أن من انشغلوا بهذا الجدل عبر القرون الثلاثة الماضية، وينشغلون اليوم بالخلافات المذهبية والطائفية وبجذورها، ومن ابتدعوا تيارات سلفية كالسرورية والجامية والإخوانية القطبية وغيرها من التيارات الصحوية حديثة التكوين، يختزلون الجزيرة العربية في هذه الجزئيات، في حين أنها أنجبت واحتضنت بعدا أعمق وأهم، وهو الرسالة المحمدية السمحة نفسها منذ نزول القرآن الكريم، وهو بعد غير مجريات الكون كله، وأرسى دعائم السلام في المعمورة، انطلاقا من مكة المكرمة والمدينة المنورة، ثم يغفل المنشغلون بهذا الجدل أيضا أن الجزيرة العربية التي لا تزال تبدو صحارى جرداء قاحلة على مد الأنظار، كانت مهد حضارات وديانات – مثل مملكة كندة في نجد ومملكة الأنباط في شمال غربي الجزيرة – وهي دول سادت ثم بادت وبقيت آثارها شاخصة تستكشف بين حين وحين، بل إن بعضها على ما يعتقد، قد سبق كثيرا من الآثار العريقة في القارات القديمة.
هذه الجزيرة – القارة، التي كانت قد غرقت في قرابة ألف عام من العتمة منذ أن انتقلت الخلافة الإسلامية من المدينة المنورة، تستعيد اليوم مجدها الحضاري التليد عبر اكتشافات الآثار الضاربة في جذور التاريخ منذ العصر الحجري، وانتهاء بالعصور الإسلامية، مرورا بعهود البابليين والكنعانيين والفينيقيين والفرعونيين – اكتشفت قبل ثلاثة أعوام – والثموديين والأنباط والأشوريين، في الجوف – الشويحطية ودومة الجندل – وتاروت والعلا وتيماء والأخدود والفاو والربذة فضلا عن الآثار الإسلامية المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ويوازي ذلك في الأهمية أنها اليوم ترسخ بعدها الروحي عبر إنماء المدينتين المقدستين، وإعمار الحرمين الشريفين وخدمة المشاعر، وإدارة حشود الأفئدة المؤمنة من الحجاج والمعتمرين والزائرين التي تؤمها على مدار العام، آمنة مطمئنة متدثرة بشرف التاريخ وقدسية المكان وعبق الزمان، بعيدا عن الخلافات التاريخية والنزاعات الطائفية والمذهبية البغيضة.
وتشهد البلاد نهضة ثقافية متنامية لتحقيق التراث وحفظ المخطوطات وتدوين الشعر والأدب العربي وتوثيق جغرافية الجزيرة العربية وتاريخها، عبر حراك في النشر وإقامة المكتبات ومعارض الكتب والصالونات والمهرجانات، وبالأخص مهرجانا الجنادرية وسوق عكاظ الحوليان، وذلك فضلا عن التوسع الأفقي والنوعي في تأسيس الجامعات ودور البحث العلمي وإيفاد البعثات الأكاديمية.
إن الإنسان الذي قُدّر له أن يعيش طرفا من المراحل العسيرة المبكرة عبر 80 عاما لتكوين هذه الدولة التي امتزجت فيها عراقة البعدين الديني والحضاري، وواجهت تحديات التنمية وحافظت عليها، لا يقايض واحة الأمن والاستقرار ووحدة الشمل وإنجازات التنمية بثمن، وهو – أي هذا الإنسان – وإن تعامل مع الترف الطارئ ومع معطيات النفط، فهو لا ينفك دوما يأمل في أن تستمر عملية التطوير والتحديث والإصلاح بكل أنماطها النافعة والمستنيرة، والتصدي لأوجه الخلل التي تنخر في بعض مفاصل الإدارة، منبهرا في الوقت نفسه دون تبرير لأي تقصير، بمعجزة توحيد الكيان وإنهاضه، ومشيدا بتضحيات الأجداد الذين صنعوا أسطورة التوحيد بعبقرية وحنكة ودهاء استطاعت، بفضل من الله، أن تلملم شتات القبائل والأطراف والتكوينات الداخلية المتناثرة، في كيان قوي موحد يرفرف عليه الرخاء والطمأنينة والاستقرار، ومجتمع تفوق في رعاية الحرمين الشريفين وتوفير الأمن فيهما مترفعا بهما فوق الخلافات والأهواء.