صدر كتابي «الإعلام في المملكة العربية السعودية – دراسة تاريخية وصفية وتحليلية» بمناسبة إعلان الرياض عاصمة للثقافة العربية (1421هـ / 2000م) وكان امتداداً إضافيّاً وتطويراً لرسالة الدكتوراه التي اكتملت متطلباتها سنة (1391هـ / 1971م)، وقد غطّى الكتاب معظم ما جدّ على الساحة الإعلامية منذ إعداد الرسالة، وحتى صدوره بعد ثلاثين عاماً.
وتأتي هذه المحاضرة بناءً على طلب قسم الاتصال وتقنية الإعلام بجامعة الدمام، بعد مرور خمسة عشر عاماً على صدور الكتاب، لتستكمل ما جدّ على الساحة الإعلامية من متغيّرات، في خطوة تمهيدية لتحديث معلوماته وإعادة إصداره، بعد أن حظي بحفاوة المجتمع الأكاديمي، راجياً أن يتواصل الجهد لإصدار كتاب موازٍ له يستعرض وثائق الإعلام ويشرحها.
وتقديراً لعامل الوقت، ستنتقي المحاضرة أبرز ما شهده الإعلام خلال الأعوام الخمسة عشر الفائتة، مما يهم المجتمع التعليمي معرفته، والمرجو أن يتفاعل الدارسون مع مضمون المحاضرة باستدراك ما قد يكون فيها من قصور أو نقص مما هو جدير بالرصد والاستذكار، وأن توحي المحاضرة ببعض الأفكار التي تنتظر من الدارسين المزيد من البحث والاستقصاء.
مسارات التغير
إن معظم التطوّرات التي شهدتها الساحة الإعلامية ذات صبغة تنظيمية، ولذا فإنه لا بد للدارس أن يتعرّف على الفوارق بين الأدوات النظامية المطبّقة في المملكة (الأمر الملكي، المرسوم الملكي، الأمر السامي، قرار مجلس الوزراء، النظام، اللائحة، القواعد، وغيرها).
ويمكن وضع أبرز ما جدّ على الساحة الإعلامية في المسارات الثمانية التالية، مع فكرة موجزة عن كل مسار:
المسار الأول:
في الإعلام البديل
خلط الإعلام البديل (بمختلف تسمياته؛ الجديد والإلكتروني والرقمي ووسائط التواصل الاجتماعي) خلط أوراق الإعلام التقليدي، وأسهم بمزيد من الانفتاح وكسر عزلة المحافظة والخصوصية، وقلب معايير الرقابة، وأحدث الكثير من المتغيّرات السياسية والإعلامية، كما بدّل فكرة الإعلام الجماهيري إلى مفهوم أصبح التواصل الفردي التفاعلي فيه هو الأساس، متخطّياً الزمان والمكان واحتكار السلطة والنخبة للطيف الترددي، وتسبب في اتجاه الصحافة الورقية التي تصارع من أجل البقاء، لأن تخطو نحو إصدار طبعات إلكترونية لا تكون مستنسخة من طبعاتها الورقية، علّها تواكب التحوّلات القادمة وتكون في مأمن من تصفيتها.
ولأن من الصعوبة بمكان السيطرة على الإعلام البديل الموازي للإعلام الرسمي والتقليدي، فإنَّ المنظّمات الدولية لم تتفق على إجراء موحّد يحقق ما تريده الحكومات المحافظة من الضبط وإحكام الرقابة لتقنين تلك الوسائط وتنظيم استخداماتها، تلافياً لمنعها البتة كما تلمح إلى ذلك حكومات اكتوت بنارها، في حين أن الشعوب تنظر إليها على أنها هدية العلم الحديث في القرن الحادي والعشرين.
في السعودية، اتّسم التعامل مع وسائط الإعلام البديل بالإيجابية إلى حد كبير، بين تلافي الحجب من ناحية وعدم التساهل من ناحية أخرى، خاصة أن تلك الوسائل لم تسلم من التزييف، وقد أسيء استخدامها من قبل بعض الفئات لإشاعة الفوضى والنعرات والثارات وتأجيجها، وغلبت فوضى الخطاب في بعض وسائط التواصل الاجتماعي، فكان لا بد للجهات الأمنية من اتخاذ الوسائل الكفيلة بحماية المجتمع، ولضمان حسن توجيه استخداماتها، والاكتفاء بإغلاق مواقع محدودة ثبتت أضرارها.
وامتداداً لهذه التقنيات الجديدة – التي اكتسبت إقبالاً شديداً من الصغار والكبار في المجتمعات وتسببت في انحسارهم عن متابعة الإعلام الرسمي – ظهرت المدوّنات والمواقع والصحف الإلكترونية، مشكّلةً تهديداً قويّاً للإعلام التقليدي بعامة وللصحافة المطبوعة بخاصة، وصارت محطات التلفزيون تبتكر برامج لتوظيفها والإفادة من مزاياها ومجاراة تقنيتها، بينما تبحث دور الصحف عن منصّات استثمارية جديدة من أجل المحافظة على مكانتها المقروئية والتوزيعية والإعلانية، وكانت ندوة سنوية تعنى بالإعلام البديل (الإعلام الرقمي) عقدت قبل أيَّام ورشة عمل في جدة حضرها آلاف من المهتمين، في احتفاء قوي يبدو جليّاً في الأرقام المليونية التي تظهرها متابعات سناب شات ويوتيوب وغيرهما، وما زالت مفاجآت التقنية تترى بين حين وآخر، ويكون للمجتمع السعودي نصيب كبير في متابعة مستجداته كما تبرزها الأرقام الخيالية للتغريدات التويترية، وفي اقتحامه بخطوات فاقت تعامله مع وسائل الإعلام التقليدية المحتكرة.
وكان من الخطوات التي اتبعتها الحكومات، اعتماد متحدثين رسميين في كل جهة ذات اتصال مباشر بالجمهور، كما أقدم العديد من القيادات والمسؤولين على استخدام وسائط التواصل الاجتماعي ليكونوا على اتصال بالمجتمع، ومن بينهم ملوك ورؤساء ووزراء اعتمدوا حسابات تويتريّة رسميّة خاصةً بأسمائهم.
على صعيد التقنين، صدرت التنظيمات الآتية:
1 – نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية (1428هـ / 2007م) وقد تقدمت به وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات وصدر به مرسوم ملكي، ويهدف إصدار النظام إلى الحد من وقوع جرائم المعلوماتية، والمساعدة في تحقيق الأمن المعلوماتي، وحفظ الحقوق المترتبة على الاستخدام المشروع للحاسبات والشبكات العنكبوتية.
2 – لائحة النشر الإلكتروني، أصدرتها وزارة الثقافة والإعلام (1431هـ / 2011م) بهدف حفظ الحقوق وتنظيم مزاولة النشر الإلكتروني وحماية المجتمع من الممارسات الخاطئة فيه، وبث ثقافة الإعلام الجديد ووسائله (واللائحة متفرعةً من لائحة نظام المطبوعات والنشر الصادر عام 1420هـ / 2001م).
3 – نظام عقوبات نشر الوثائق والمعلومات السرية وإفشائها، صدر بمرسوم ملكي (1432هـ / 2011م) بقصد حماية الوثائق السرية من الإفشاء بما يؤدي إلى الإضرار بالأمن الوطني، موكلاً إصدار لائحته التنفيذية للمركز الوطني للوثائق والمعلومات.
المسار الثاني:
إعادة هيكلة الإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء السعودية
ربما كان ما تضمنته الصفحة (282) من رسالتي للدكتوراه الصادرة عام 1391هـ / 1971م والصفحة (337) من كتابي الصادر عام 1421هـ (2000م) أول دعوة لتحويل الإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء السعودية إلى مؤسسات عامة، حيث أوضحت أن كل محطات الإذاعة والتلفزيون الحكومية في العالم فضلاً عن وكالات الأنباء، هي مؤسسات عامة ((public corporation) أو هيئات عامة (public commission) وأنها جميعاً تتمتّع بالاستقلالية الإدارية والمرونة المالية عن الأجهزة الحكومية، ثم أتبعت هذا الطرح بعدد من المقالات كان آخرها مقالا بعنوان « فلتكن هيئاتٍ إعلاميةً لا مؤسسات «جريدة الرياض 1423هـ / 2003م».
وقد تردّدت وزارة الإعلام مدةً طويلة في الاقتناع بالفكرة رغم صدور الموافقة المبدئية عليها من مجلس الوزراء منذ سنوات، وفي عام 1433هـ / 2012م في عهد الوزير الأسبق د. عبد العزيز خوجة، صدر تنظيم بقرار من مجلس الوزراء بتحويل الإذاعة والتلفزيون معاً إلى هيئة عامة، وتنظيم آخر مماثل لوكالة الأنباء السعودية (وهنا يلاحظ التفريق بين مدلول النظام الذي يصدر بمرسوم أو بأمر ملكي، والتنظيم الذي يصدر بأمر ملكي أو بقرار من مجلس الوزراء).
نتج عن هذا التغيير تحويل جميع الموظفين الماليين والإداريين والفنيين الذين يرتبط عملهم بالإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء السعودية وفصل البنود المالية من ميزانية الوزارة ووضعها في ميزانية الهيئتين، كما أصبح لكل هيئة من الهيئتين مجلس إدارة برئاسة وزير الثقافة والإعلام الذي يمثلهما في مجلس الوزراء، ومن بين مسؤوليّات مجلس الإدارة إقرار الهيكل التنظيمي واللوائح المالية والوظيفية والمهنية والفنية التي تقترحها الهيئتان، وهنا أصبح ارتباط الهيئتين بالوزارة ارتباطاً إسميّاً يتمثّل بشخص الوزير رئيس مجلس إدارتهما، أما جهاز الوزارة فلا علاقة له بعملهما.
وبقدر ما استبشر الإعلاميون بعد طول انتظار بما أقدمت عليه الوزارة في هاتين الخطوتين، فإنَّ الملاحظ حتى الآن هو اختلال الاستقرار الإداري في هيئة الإذاعة والتلفزيون، وأن وتيرة الإنتاج الفني المحلي بقيت راكدة ولم تنشط كما كانت في العقود المبكرة من تأسيس الإذاعة والتلفزيون، ولوحظ جمود حركة الابتعاث والتدريب الإعلامي في الداخل والخارج، وأن التغيير الهيكلي في التحوّل نحو الهيئة لم يرافقه تحسن نوعي واحترافي ملحوظ، على أمل أن يأتي هذا التحسّن من خلال المرونة والاستقلالية اللتين اكتسبتهما الهيئة الجديدة، وهناك ملحوظة أخرى لا بد أن يشار إليها، وهي أن الهيئة وإن استقلّت ماليّاً وإداريّاً، وتحلّلت في وضعها الجديد من كثير من القيود الروتينية إلا أن الوزير بقي مشغولاً معها بالتفاصيل البرامجية اليومية المعتادة، أما وكالة الأنباء السعودية فقد بقيت على رتابتها، ولم يطلها تحسن ملحوظ من هذا التغيير الجذري في هيكلها القانوني والتنظيمي.
المسار الثالث:
نموّ قطاع الإعلام الأهلي
كان من أبرز مظاهر نموّ القطاع الأهلي في مجال الإعلام الصور التالية:
1 – الترخيص لخمس من الإذاعات الأهلية من قبل وزارة الثقافة والإعلام (1431هـ / 2010م).
2 – تأسيس أكاديمية أحمد بن سلمان للإعلام التطبيقي من قبل المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق، وكانت فكرتها بدأت في عام 1424هـ / 2004م حين قدمت دورات في مجال الطباعة والألوان، ثم انطلقت بعد ثلاثة أعوام بتقديم البرامج العلمية، وكان التدشين الرسمي للأكاديمية في العام التالي (1428هـ / 2008م).
3 – ولادة العديد من القنوات الإذاعية والتلفزيونية المحلية التي أسّست مراكز إنتاج في الداخل وبثّ في الخارج، وظهرت تلك القنوات دون الحصول على الترخيص المعتاد من الجهات المختصة، وذلك على اعتبار أن البث لا ينطلق من داخل المملكة، متّبعةً في هذا الأمر ما كانت المطبوعات غير المرخصة تطبّقه من حيث تحضير المادة محليّاً وطباعتها خارجيّاً.
4 – تأسيس قسم للإعلام والقانون في جامعة اليمامة الأهلية بالرياض (1436هـ / 2015م).
5 – قيام المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق بوصفها مجموعة قابضة لمجموعة من الشركات والإصدارات السعودية والأجنبية، وقد بادرت واحدة من شركاتها (الشركة السعودية للأبحاث والنشر المسجلة في بريطانيا) في عام 1429هـ / 2008م إلى إنشاء مجلس للأمناء على غرار بعض دور الصحف الأجنبية بهدف حماية التحرير من سطوة التأثير التجاري، وهو أول تكوين من نوعه في المملكة وفي البلاد العربية.
** ** **
* محاضرة في قسم الاتصال وتقنية الإعلام بكلية الآداب في جامعة الدمام، الثلاثاء 12 / 2 / 1437هـ 24 / 11 / 2015م.
– الرياض