على مدى ثلاثة أيام، كانت لمجموعة من الشوريين السعوديين الرحّالة زيارتهم الثانية لمنطقة تبوك في الشمال الغربي من السعودية، وكان يفترض أن تتعدّد الزيارات بما يليق وتاريخها الديني وعراقتها الحضارية وإمكاناتها السياحية والاقتصادية، فتبوك وتيماء، ومدْيَن التي تسمى البِدْع حاليًّا، وما حولها، تشهد على تاريخها قبل الميلاد الكتابات الثمودية وآثار قوم مدين وأصحاب الأيكة، والحضارات الآشورية والبابلية والآرامية والرومانية والمعينية والنبطية واللحيانية والعربية ثم الحضارة الإسلامية، وهي أماكن يكفيها – من آثارها ومآثرها – مضاهاتها لفلسطين وسيناء ومصر وبلاد الشام المحيطة بها، وفي أن أقدام الأنبياء موسى وهارون وشعيب ويعقوب ومحمد عليهم الصلاة والسلام قد وطئتها، وأن محمدًا وصحبه قد واجهوا الروم فيها في السنة التاسعة للهجرة، مواجهةً تحقق فيها النصر للمسلمين من دون قتال، واشتهر بها المكان (غزوة تبوك) وأدخلت أهله الإسلام.
لا يتسنّى في هذا المقام المحدود تعداد الأماكن الإسلامية التي تشتهر بها المنطقة الغنية بالمواقع الأثرية التاريخية والتراث العمراني، كما يضيق عن التفصيل في ذكر القلاع التي بناها العثمانيون على امتداد الخط الحديدي الحجازي من إسطنبول عبر بلاد الشام مرورًا بتبوك وانتهاءً بالمدينة المنورة عام 1908م، ودمّرها الإنجليز قبيل الحرب العالمية الأولى، لكن المقال يتوقف عند بضعة معالم مهمة ذات فرص سياحية واعدة، أولها وربما من أهمها ذلك الوادي الجميل (الديسة) الذي يمتد نحو ثلاثين كيلومترًا تحيط به الجبال الشاهقة الارتفاع والحواف الصخرية الحادة، ويقع إلى الجنوب الغربي من مدينة تبوك على بُعد 150 كيلومترا، وترتبط به شعاب عدة لا يتّسع المجال للتفصيل فيها، وتوجد فيه بعض المعالم الأثرية النبطية المنحوتة، كما تتفجر نحوه ينابيع مياه جارية مشكّلة جداول تنساب على طول الوادي، تغذّي غابات نخيل الدوم ونباتات القصبا والبردي التي تكثر في الوديان والبحيرات، وهذا الموقع البالغ الجمال الفريد ينتظر جهودًا استثمارية وتطويرية بلديّة وسياحيّة مع الإبقاء على طبيعته النباتية والفطرية، بما يجعله وجهةً مريحةً وجاذبة للأهالي والسياح على غرار ما نفّذته هيئة تطوير منطقة الرياض في وادي حنيفة، فوادي الديسة يبهر الناظرين بجمال أخّاذ يندر مثله في المنطقة.
الموقع الثاني: جبل اللوز الواقع نحو الشمال الغربي من مدينة تبوك باتجاه الأردن على بُعد نحو 150 كيلومترا أيضًا، ويبلغ ارتفاعه نحو ألفين و500 متر عن سطح البحر، وينزل عليه الجليد في فصل الشتاء بما يجعل قممه مقصدًا للمتنزهين، إلا أن الموقع لم يستثمر حاليًّا من الناحية السياحية، كما لم يؤهّل خدميًّا وبلديًّا، مع أنه من المواقع الواعدة للاستجمام والتنزّه في الشمال الغربي من شبه الجزيرة العربية، ولا يقل جمالاً عن المواقع المماثلة الموظّفة سياحيًّا في لبنان والأردن وسوريا وتركيا.
ذكرت منطقة تبوك كثيرًا في كتب الآثار ومؤلفات التاريخ الإسلامي، ووردت أخبارها في كتب البلدانيين والجغرافيين عامة مثل ابن بطولة والمقدسي والاصطخري، ومن قبلهم الرحالة الرومان مثل بطليموس، كما ذكرها الرحالة والمستشرقون والحجاج الذي مروا بها، خصوصا أنها تقع على طريق قوافل الحج الشامي والتركي والمصري عبورًا من البحر الأحمر، فكتبوا عن مشاهداتهم من الآثار، ومنهم من تتبع أدب البدو ولهجات القبائل (مثل بني عطية وبلي والحويطات والشرارات وجهينة وعنزة والمساعيد والعمران في شمال غربي الجزيرة)، ومن الرحالة الذين مَرُّوا بها في القرنين الماضيين، داوتي وهوبر وأوغستوس وموزل، وعبد الله فيلبي الذي خصها بكتابه النفيس «في أرض مدين 1953»، ونشرته مكتبة العبيكان 2003، فَصَّل فيه رحلته التي قام بها في شمال غربي السعودية قبيل صدور الكتاب، مما يتّسع لبحث مستقل.
أما الموقع الثالث فإنه الواجهة البحرية لمنطقة تبوك المطلة على البحر الأحمر البالغ طولها نحو ستمائة كيلومتر، وتمتد من أقصى الشمال بدءًا بمدينة «حقْل» السعودية المجاورة لمدينة العقبة الأردنية، ولمدينة «إيلات» الفلسطينية المحتلة (أم الرشراش)، وتستمر جنوبًا إلى «رأس الشيخ»، ثم تتجه إلى مدينة «ضبا وأملج والوجه»، وكلها مدن بحرية سعودية على ساحل البحر الأحمر، ولو قدّر لمشروع الجسر بين السعودية ومصر أن يتحقّق فإن رأس الشيخ هو الموقع المرشح لبدايته، لكونه الأقرب المقابل لشرم الشيخ المصرية عبر جزيرتي «تيران وصنافير» السعوديتين الواقعتين حاليًّا تحت إشراف الأمم المتحدة على مدخل خليج العقبة.
تمتاز هذه الواجهة الساحلية بجمال شواطئها المرجانية، وبنظافة مياهها، وباعتدالها المناخي، وبالتالي فهي مواقع عالية الجدوى من الناحية السياحية والترفيهية، وقد بدأت بعض المؤسسات الأهلية في هذه المواقع التي تقابل ساحل الغردقة المصرية بالاستثمار فيها.
وإذا ذكر حاضر تبوك فلا بد أن تذكر منشآتها الزراعية الكبرى التي تنتج الحمضيات والفواكه بأنواعها، وتصدّر الورد بشكل يومي إلى أسواق الورد المركزية العالمية في هولندا وألمانيا والتشيك وبريطانيا وقبرص ولبنان ودول الخليج وآسيا وأميركا، حيث تنتج سنويًا نحو عشرين مليون زهرة ووردة على اختلاف أنواعها.
وعودًا على بدء، لم تكن الأيام الثلاثة كافية للتجوال في منطقة تبوك على الحدود مع الأردن، التي تشكل أحد التقسيمات الإدارية الثلاث عشرة للمملكة العربية السعودية، والاطلاع على مساجدها ومواقعها التاريخية والسياحية، وقلاعها وتراثها المعماري، وشطآنها ووديانها، وتكويناتها الجبلية العجيبة، وكثبانها الرملية الساحرة، ومحميّاتها الفطرية، وفنونها الشعبية وأكلاتها التقليدية، ومسامرة أدبائها وشعرائها، والتعرّف على مكوّنات المجتمع وعراقته السكانية، وعلى منشآتها الاقتصادية ومشروعاتها الزراعية، تمامًا مثلما أن هذا المقال لا يفي بشرح كل ما يشاهده الزائرون فيها، فالمجتمع «التبوكي» بطبعه الأصيل في إقراء الضيف وإكرامه لا يدعه على راحته في اختيار سكنه وطعامه، مما قد يضطره إلى المغادرة على عجل حرصًا على راحة «المعازيب».