ما كان لهذا القلم، أمام شخصيّة عرفها عن قرب على مدى ربع قرن، وهو يترجل عن الخدمة العامة هذا الشهر، وكان قد تربّى في بيت الأدب والتاريخ في المدينة المنوّرة، قبل أن يسلك طريقه نحو تخصّص العلوم السياسيّة، ثم يمارس العمل الدبلوماسي، لتجتمع في يديه خيوط الخبرات من جميع أطرافها، مضافة إليها تجربة ثريّة في المجال الشوري من خلال مروره في بدايات تكوين مجلس الشورى السعودي الحديث، فتفاعل معه في أثناء عضويّته وبعدها، وكان ركناً من أركان لجنة الشؤون الخارجيّة واللجان البرلمانيّة في المجلس… أقول؛ ما كان لهذا القلم إلا أن يحرّر كلمة بحقه، ما كانت لتكتب قبل اليوم بهذا البوح والتصريح.
وإذا جاز تحديد المدرسة العمليّة التي تخرّج فيها، فإنها بامتياز، أكاديميّة وزير الخارجيّة السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل، فلقد لازمه عن قرب مدّة فاقت 3 عقود، تشرّب فيها منه فكره وحنكته وأسلوبه في الاجتماعات والمؤتمرات، ما أفرغ د. نزار بعضه في كتاب صدر مؤخّراً عن سيرة الأمير الفيصل، وهو قليل.
إلا أن د. نزار، الذي شغلته الوظيفة بالترحال والظروف الإقليميّة والدوليّة المحيطة، لم يُغفل معاقرة «الحرف» الذي عشقه قراءة وصوغاً منذ أن كان على مقاعد الدراسة، وأبدع فيه عبارة وذوقاً، ظهَرا عبر الكلمات التي ضمّتها كتبه التي أصدرها، ومنها…
«دبلوماسي من طيبة 2009» دوّن فيه محطّات من سيرته، وكنت كتبتُ قراءة له في مقال نشرته «الشرق الأوسط» في عددها ذي الرقم 11209 لعام 2009.
وكتابه الثاني «المستقبل 2017» الذي تضمّن مقالات نشرها في أثناء مشواره الوظيفي، واستشرف فيها متغيّرات القرن الحادي والعشرين وتحوّلاته.
وكتابه الثالث «سعود الفيصل 2018» الذي وثّق فيه مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلاميّة سيرة الأمير الكريم، ونفث فيه د. نزار رحيق فكره، وأفرغ فيه عصارة خبراته التأليفيّة، علاوة على مشاعره الوفائيّة نحوه. والمؤمَل أن يصدر له عن قريب كتاب رابع يتضمّن الكلمات الدبلوماسيّة، التي ألقاها عبر مسيرته الوظيفيّة.
إن من يتمعّن في مجمل سيرة الدكتور نزار، لا يسعه إلا أن يلحظ أن لفظ «التوازن» هو المصطلح الأدقّ في وصف شخصيّته منذ باكر نشأته الأولى في المدينة المنوّرة، حتى أصبح منذ ربع قرن الذراع اليمنى لوزير الخارجيّة، وسنده الرّديف في مسؤوليّاته، وتصير صفة «أيقونة القوة الناعمة المتوازنة» معبّرة كل التعبير أيضاً عند من يعرف دواخل أسلوبه في الخُطب واللقاءات الدبلوماسيّة، وصلاته الاجتماعيّة والإخوانيّة والأسرية الودودة والمعتدلة، مضافاً إليها ما يُعرف من تواضعه الجمّ ونفوره من المباهاة والأضواء.
أما عن محتوى هذا الكتاب المنتظر، من الكلمات التي ألقاها بوصفه مندوب المملكة العربية السعودية في المحافل الدبلوماسيّة، وبصفته وزير دولة للشؤون الخارجيّة، ومن قبل ذلك مساعداً لوزير الخارجيّة، فالكتاب يلخّص الفكر السياسي لبلاده ولقادتها منذ عهد مؤسسها الملك عبد العزيز، وبخاصة منذ تكوين الشعبة السياسيّة ومجلس المستشارين، وإنشاء وزارة الخارجيّة (1930) التي قادها الأمير (الملك) فيصل طيلة 45 عاماً، ثم تولّاها ابنه الأمير سعود الفيصل مدّة نافت على 40 عاماً.
الكتاب الذي قُدّر لكاتب هذا المقال، أن يطّلع على مسوّدته، يضمّ كما سلف، خلاصة فكر سياسي، ويوجز رؤية دولة ومنهج قيادة، وطريقة حكم لم تتغيّر عبر العقود، ويؤرّخ مبدأ ثابتاً مع كل القضايا والمستجدّات. والكتاب مع هذا وذاك، يُنبئ عن بصمة كاتبه (د. نزار) وحرصه على أن يعبّر تعبيراً دقيقاً عن سياسة حكومته، ممثّلة في دواوينها ووزارة خارجيّتها التي تأسّست قبل 90 عاماً.
وأجزم أن الدكتور مدني، قصد من جمع أوراقه التي ألقاها في المحافل الدوليّة وتدوينها، أن يبرهن لقرّائه كم كانت سياسات المملكة ومواقفها ثابتة لم تتحول عبر التاريخ، وكم هي دعايات مناوئيها تشوّه الحقائق ولا تنصفها؛ حيث ما انفكّت كلمات القادة والمندوبين السعوديين، تؤكّد عَلى ثوابتها، وبخاصة تجاه القضايا العربيّة والإسلاميّة، وتأتي قضيّة القدس وفلسطين في مقدّمتها، ومن قبلها قضايا التحرّر الوطني في تونس والجزائر ودوّل الخليج العربي، والأوطان العربيّة والإسلاميّة كافة التي تحرّرت لاحقاً.
وعلى الرغم من أن الكلمات التي ألقاها د. مدني في بعض المحافل الدوليّة بالأمم المتّحدة بخاصّة، وفي مناسبات ومؤسّسات عالميّة أخرى بعامة، ليست سوى نماذج لكلمات دأب المسؤولون السعوديّون على إلقائها، فإنه يمكن استخلاص لمحات من الفكر السياسي الكامن وراءها، وبعض الخطوط العريضة والمرتكزات الأساسيّة التي تتميّز بها السياسة الخارجيّة السعودية، وأنها تسير على المنوال والمنهج نفسه، وأن المبادئ التي حكمت ولا تزال تحكم هذا النهج لم تتبدّل على مرّ الزمن، وما ذلك إلا لأن نظام الدولة يتّسم بالاستقرار، ما جعل لغة الخطاب متقاربة طيلة العهود التي مرّت، فحقب الحكم المتتالية كان بعضها امتداداً لبعض، تستلهم مبادئها عن اقتناع، من تلك الأصول المتوارثة.
والسمة الثانية لتلك الكلمات، أنها تعبّر بشكل واضح عن دعم السعودية الراسخ للقضايا العربيّة والإسلاميّة، وتعدّها أحد ثوابت سياستها الخارجيّة.
وتكشف في الوقت نفسه، أن المملكة تتعامل بصدق مع غيرها من الدول، على أساس من الاحترام المتبادل، ورعاية المصالح المشتركة، وحل المنازعات ما أمكن بالطرق السلميّة، وعدم التدخّل في الشؤون الداخليّة. وتُعدّ هذه المبادئ وأمثالها حجر الزاوية في بنيان الدولة وسياساتها.
وإذا كان البعض قد يلحظ على دوائر صنع القرار، ومنها وزارة الخارجيّة السعودية والقنوات الدبلوماسيّة والوسائل الإعلاميّة، عدم التعجّل في اتّخاذ المواقف نحو القضايا الجوهريّة، وتريّث الحكومة في إعلان قراراتها، فإنها عندما تقرّر مواقفها، تأخذ بالوسائل الجادّة المعتدلة، البعيدة عن الغوغائيّة والضجيج، والشعارات المضلّلة، ولا تتعامل بوجهين، وليست لها سياسة معلنة وأخرى مستترة، وهي تعتمد في معالجتها للقضايا الدوليّة على الحكمة والعقلانيّة والتبصّر لمواقع أقدامها، واستثمار قوّتها الناعمة، وكثيراً ما كانت تحصد في نهاية المطاف النتائج الإيجابيّة المأمولة، بل تصبح قطب الرحى في كثير من المواقف، بعد أن كان البعض يظن أنها تدور خارج اللعبة السياسيّة.
لقد بدأت السعودية في العقود الأخيرة، عقب اجتيازها المنعطفات التي عصفت بالعالم، في انتهاج خطط تنمويّة واجتماعيّة طموحة، تجمع بين المحافظة على الموروث من ناحية، والعصريّة والتحديث والانفتاح من ناحية أخرى، في توازن واثق مدروس، لا يضحّي بمكتسباتها، واتجهت في عهدها الحالي إلى تجديد دماء مؤسساتها بالعناصر الشابة، وإلى تغيير منطلقاتها الاقتصاديّة بالسعي نحو تنويع المصادر وتقليل الاعتماد على النفط، وراجعت كثيراً من مناهجها الدراسيّة العتيقة، ولوائحها التقليديّة التي تضع قيوداً على حقوق المرأة في المشاركة السياسيّة، وسعت في علاقاتها الخارجيّة إلى توثيق صلاتها مع كل المحاور، وتبنّت برامج للتعاون بين الدول لمكافحة التطرّف والإرهاب، ومحاربة الفساد وإشاعة النزاهة، وبادرت بالتعاون مع إسبانيا والنمسا والفاتيكان إلى إنشاء مركز عالمي للحوار بين أتباع الديانات والثقافات، والدعوة إلى الوسطيّة في نهج الدعوة، واحترام الآخر، ونشر ثقافة التسامح والتواصل الحضاري.
ومن جانب آخر، تلتزم المملكة العربيّة السعودية بحزم، بالقيام بواجبها في مواجهة التحدّيات لحماية النظام الدولي من عبث المنظّمات الإرهابيّة التي تنخر في الكيانات المستقرّة، وتُشيع الفوضى في المجتمعات الآمنة، وتزعزع منظومة الأمن والسلام في العالم.
ومن معرفة وثيقة بشخصيّة المقال (د. نزار) يمكن القول إنه ينفر من المبالغة في الإطراء، ويتجنّب الانزلاق في المديح في كلماته المكتوبة وفي أحاديثه ومناقشاته، وإنه بالإضافة إلى ذلك، من دعاة التنوير والإصلاح، وإذا لم تكن لديّ أمثلة مكتوبة توثّق ما ذكرت، فلا أقلّ من التأكيد على وجود خطابات سياسيّة معيّنة مرّت على مجلس الشورى ووزارة الخارجيّة، بذل الدكتور نزار جهده فيها كي تصدر محقّقة لهذا الهدف، فلقد وظّف فيها – عن معرفة وفكر – كثيراً من مفردات تخصّصه في العلوم السياسيّة، وهو الذي جاء إلى العمل الدبلوماسي ثم إلى الوظيفة في وزارة الخارجيّة، عن تخصّص لا عن ادّعاء، وربما كان القيادي الأبرز الذي دلف إلى باب الوزارة من هذا التخصص، فأعطت بعض كلماته معاني في السياسة الخارجيّة والعلاقات الدبلوماسيّة والتعاون الدولي، وأمثالها من الموضوعات العلميّة والعمليّة المتداولة، فمحاضرته – على سبيل المثال – التي ألقاها في «منتدى رياض النيل» بالقاهرة (18- 2 -2018) بحضور جمع من السفراء ورجال الصحافة وأرباب القلم وقدّم فيها تعريفه للسياسة الخارجيّة السعودية، وشرحه للمرتكزات التاريخيّة التي تقوم عليها، والمصالح العليا المترابطة التي تحرص على تحقيقها عند رسم أهدافها، فمزجت المحاضرة بين التعريف النظري للسياسة الخارجيّة والتطبيق العملي، من خلال دراسته وتجاربه، وهي رؤية لا تنقصها الصراحة والشفافية، تعبّر عن شخصيّة مُلقيها، وتصلح أن تكون «كتاب الأسلوب» للممارسين والدارسين على حدّ سواء، فلقد شخّصت المحاضرة أنواعاً من المحاور تقوم عليها السياسة الخارجيّة السعودية، وهي الاستمراريّة مع الثبات، والشرعيّة مع المصداقيّة، والتزام القِيَم والأخلاقيّات، وتعزيز الاستقرار والعدل والسلام.