رموز تنوير في المجتمع السعودي: الجاسر وابن خميس والجهيمان


لخصها الدكتور عبد العزيز الخويطر بوصف: «الجلسة التاريخية»، تلك التي اتحفت بها «خميسية» العلامة السعودي الراحل حمد الجاسر روادها باستضافة أحد طلائع الفكر واعلام التنوير في عمق المجتمع السعودي: عبد الكريم الجهيمان، ضحى الخميس الفائت (26/4/2007) في «دارة العرب» بالرياض، وقد شارف على المائة عام من عمره.

ومنذ الخمسينات من القرن الماضي، كانت الساحة الثقافية الناشئة في الرياض، تزهو بذكر ثلاثي رموز الأدب والثقافة في نجد (وسط المملكة العربية السعودية) وهم: حمد الجاسر رحمه الله، وعبد الكريم الجهيمان وعبد الله بن خميس، حفظهما الله.

لم تكن اعمالهم الفكرية ونتاجهم العلمي، الواسع حجما ونوعا، كل ما يلفت نظر مريديهم من القراء والباحثين، لكن طبيعة ما كانوا يكتبونه، في بيئة كانت تتسم – في معظمها – بالانغلاق والتزمت، وما تعرضوا له من تضييق، كانت تثير الاعجاب بهم والتعجب من انفتاحهم في مناخات من التشدد وأوساط من الفقر الابداعي التي ظهروا فيها، وقد نالوا جميعا أوسمة الدولة الممتازة.

فهذا حمد الجاسر، يخرج من قرية زراعية صغيرة (البرود باقليم السر) في عالية نجد، التي تجمعت حولها كتل توطينية (هجر) للبادية، أضحت فيما بعد احدى أشهر حاضنات الغلو الديني (مجموعة الاخوان) في اواسط العشرينات، فإذا به، عبر طريق مليئة بالصخور والأشواك، ينبغ عقلا وفكرا وعلما وتميزا، ويثري المكتبة العربية بتراث عظيم مستنير من الابداع في ميادين الأدب والتاريخ والجغرافيا والمخطوطات والأنساب والتراجم، ويمارس التعليم والقضاء فتكون له مواقف وآراء تطويرية مؤثرة في ممارستهما، ثم يتصدى لاصدار أول مطبوعة صحافية في الرياض عام 1952م (مجلة اليمامة)، ويؤسس أول مطبعة وأول دار نشر وبحث، وما تشهده الرياض اليوم من حركة ثقافية شاملة، وحظي من جيله بلقب لم يحمله غيره من قبل (علامة الجزيرة العربية) وانضم مؤهلا الى قائمة المجمع اللغوي العربي في كل من القاهرة ودمشق وبغداد، وآل البيت في الاردن.

وقد توفي عام 2000 وأسس له ذووه ومحبوه مركزا ثقافيا يحمل اسمه، ويسابق الزمن نحو حفظ تراثه، وجمع بحوثه ومقالاته التاريخية والعلمية والجغرافية برئاسة الأمير سلمان بن عبد العزيز.

أما الشخصية الثانية: فهي الأديب والصحفي والترائي عبد الكريم الجهيمان، الذي «جايل» الجاسر في عمره (نحو قرن)، وشابهه في البيئة والظروف والمحيط، فهو ولد في قرية «غسلة» القريبة من شقراء قاعدة الوشم غرب الرياض، وهي بلدة لم تكن أحوال الفقر فيها والتخلف تختلف في حينه عن كثير من بلدان نجد الأخرى، ومع ذلك فقد خرج من اقليم الوشم بضعة مشايخ من طلبة العلم انتشروا في سائر الاقاليم من حوله.

تجاوز الجهيمان مفاوز محيطه وأشواك دروبه واتجه الى مكة المكرمة، حيث الانفتاح والمكتبات والعلماء وحيث منارة الاشعاع والمعارف (الحرم الشريف)، فالتحق بسلاح الهجانة يكتسب منه ما يغذي عروقه ويسد رمقه ويشبع نهمه في القراءة، حتى اذا ما تعلم في مدارس مكة المكرمة اتجه الى الامام على ضفاف الخليج العربي ليحذو حذو صديقه الجاسر في انشاء أول مطبعة واصدار أول صحيفة (أخبار الظهران)، ثم يسجل باصداراته التراثية ما نطقته الألسن وسجلته المسامع من امثال واساطير وحكايات شعبية (في عشرة مجلدات)، فضلا عن مؤلفاته الاخرى. لكنه وبسبب بعض ارائه التي تجاوزت زمانه، تعرض للتضييق وصحيفته للاغلاق، ثم يأذن الله بعد نصف قرن ان يتحول كل ما قاله من ابداعات، سننا في زماننا هذا، بل فرائض وواجبات، وبخاصة قضايا تعليم المرأة.

أما عبد الله بن خميس (90 سنة) فهو الناقد والشاعر الجزل، الذي يعد ـ بحق ـ أحد موسوعيي الجزيرة العربية في مجال الجغرافيا والتاريخ والادب العربي والشعر الشعبي، وقد اصدر معاجم في جغرافية منطقة اليمامة (وسط نجد) وعن جبال وسط الجزيرة ووديانها، مما يكمل المعجم الجغرافي الأعم الذي تبناه حمد الجاسر وشارك في اعداده نخبة من ابرز الباحثين الجغرافيين في مختلف اقاليم البلاد، كما دون في اربعة اجزاء شواهد برنامجه الشهير (مَن القائل) المحاكي لبرنامج (قول على قول) للكرمي.

وقد تجلت ريادته الصحفية في إصدار ثاني صحيفة أهلية في الرياض (الجزيرة 1960) التي ـ كما حصل مع سابقتها اليمامة ـ ما لبثت أن تحولت الى مؤسسة صحفية تحمل الاسم نفسه حتى اليوم.

دأب ابن خميس على كتابة المقالات الصحفية المؤثرة ـ باسمه الصريح او المستعار ـ منذ ان كان دارسا في دار التوحيد بالطائف ثم في كلية الشريعة بمكة المكرمة، الى حين صار مديرا لمعهد الاحساء العلمي ثم عميدا لكليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض، وبلغت كتاباته صراحتها ونقدها عندما عالج في جريدته آفاق اجتماعية وقضايا سياسية واقتصادية مثل: (مشكلات الفساد الاداري وكفاءة النسب، وحقوق المرأة وقضايا الزيت والغاز وحرية الصحافة) مما يشهد به كتابه الجريء: فواتح الجزيرة، حيث كان ـ بوصفه صاحب الامتياز ـ يحرر افتتاحياتها أحيانا.

وهو وإن تعرض ـ كما حصل مع الجاسر والجهيمان ـ لشيء من الصعوبات في تحرير مقالاته الساخنة، الا أنه لم يوقف او يساءل مثل سابقيه او يسحب منه الترخيص، وما دام الحديث عن شجون الصحافة، فلعله من المناسب ان يختم المقال بأبيات من قصيدة طويلة تدلل على شاعرية ابن خميس، قالها في حرية الصحافة:

ذات الجلالة ما تسامت سلطة

إلا وفوق سموها سلطاتها

هي منبر صوت الشعوب يذيعه

ولفكرة ما أنهرت قنواتها

من لي بها فصحى الحقيقة طلقة

فوق الرقيب تكون حرياتها

وطنية المنحى فلا شرقية

توحي بواغل فكرها نفثاتها

لا هذه نبغي ولا غربية

تتحسس الدولار مرئياتها

عقوا الصحافة واستباحوا حرمها

ومضى بها نحو الجحود جناتها

حزبية ما شئت أم فردية

قامت على مد الأكف حياتها

وقد اكتسب الشيخ ابن خميس عضوية المجمعين العلميين في القاهرة ودمشق.

* إعلامي سعودي