تمضي الأقدار بإنسان المجتمعات العربية، وهو مذهول بما يدور حوله من صور العنف والإرهاب والانحراف في الفكر، ومنشغل بتصيّد الأخطاء وفرز هفوات الحكومات، والتقليل من حجم إنجازاتها، فيكون النظام الصحي أبرز هموم الناس وانشغالات الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي.
في الرياض، العاصمة السعودية ذات الخمسة ملايين من السكان أو تزيد، سبعة مصحّات حكومية كبرى تتكامل وتتنافس فيما بينها – بآلاف الأسرّة – لتقديم خدمات صحية نوعية للمواطن على مستوى البلاد ولمنسوبي قطاعاتها، وبما تتطلبه المثاليّة من تغذية ومرافق لوجيستية مساندة في مختلف التخصصات الطبية، ومع ذلك لا يزال هناك المزيد في طور التنفيذ، وبخاصة في مجالي الانتشار الأفقي على مستوى الوطن والتأمين الصحي.
يأتي في ريادة هذه المشافي الوطنية الكبرى: مستشفى الملك سعود (الشميسي جنوب غربي الرياض) وهو أول مشفى حكومي متكامل تأسس في منتصف عهد الملك سعود (حدود عام 1957م) ولا يزال يؤدي خدمات طبية جليلة، وبخاصة في مجال الحوادث والعظام والحروق والولادة والأطفال والأسنان، يأتي بعده مستشفى القوات المسلحة (وهو منظومة طبية عملاقة أنشأت وزارة الدفاع نواتها في العاصمة قبيل الستينات ثم استمرت في إنشاء فروع لها في المدن العسكرية لتصبح أكبر المجمّعات الطبية السعودية المتميّزة حجمًا وانتشارًا وأداء) يأتي بعدها مستشفى الملك فيصل ومركز الأبحاث (أنشأه الديوان الملكي 1975م ليكون مصحًّا متخصصًا للحالات المستعصية) ثم أضاف إليه فرعًا في جدة)، يأتي بعده مستشفى الملك خالد الجامعي الذي تديره الكليات الصحية في جامعة الملك سعود، ثم مستشفيات الحرس الوطني التي تتمدَّد بخدمات طبية علاجية وتعليمية وتدريبية متقدمة في الرياض وفي معظم قواعد الحرس الوطني، ثم مستشفى قوى الأمن الذي تنتشر له فروع عدة في المدن السعودية الرئيسية، وتكتمل هذه المنظومة بالمستشفى السابع الأحدث وهو مدينة الملك فهد الطبية وسط الرياض التي أسستها وزارة الصحة في السنوات العشرين الماضية لخدمة عموم المواطنين والمقيمين في العاصمة.
يجمع بين هذه المشافي كون الإنفاق على التعليم والصحة والأمن لا يقاس بالمردود الاقتصادي، وهو مبدأ يخفق في التوازن في تحقيقه واتّباعه بعض المجتمعات، كما تشترك المستشفيات العسكرية والتعليمية مع المستشفيات العمومية في أنها تقدم خدماتها لمنسوبيها وتوفر الفائض للمواطنين من غيرهم على حد سواء.
الدافع لهذا المقال إن صاحبنا مرّ خلال الأيام الفائتة بظرف قرّبه من أحد هذه الصروح العملاقة؛ مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث، وجعله يتعرّف عن كثب على القدرات الكامنة – بصمت – فيه.
في ذكرى ميلاده الأربعين هذا العام، يُسامق هذا المشفى المراتب الصحية العالمية بمرافق زاهية ومختبرات وبوسائل تخدير وتنفّس وعلاج طبيعي، وبخبرات مهنية طبية نوعية عالية، وبكوادر تمريضية مؤهلة، وبأسماء لامعة في جراحة القلب وزراعته وفي أمراض المخ والأعصاب والأورام والمسالك البولية وأمراض الدم وزراعة نخاع العظام وفي أمراض الكبد والرئة والكُلى وزراعتها، ناهيك بتقنية الخلايا الجذعية وأبحاثها، وزراعة الأعضاء للأطفال، تخصصات من التنّوع بحيث يصعب الاستشهاد بأسماء البارعين فيها، فضلاً عن أن طبيعة العمل المؤسسي في هذه المراكز العلاجية لا تستند إلى الأطباء بأسمائهم بقدر ما تعتمد على مجموعات من الفرق الطبية المهرة التي يكمل بعضها بعضًا، مهما بلغت بساطة أدوارها أو تعقيداتها.
بعيدًا عن ضوضاء السياسة وصخب الفضاء، ودون انتقاص لغيره من المراكز الستة على اختلاف مستوياتها وتخصصاتها، ينهمك هذا الصرح الطبي العملاق – وفرعه في جدة – وعلى مدار الساعة، بشغل إنساني رفيع المنزلة، يباري أمثاله في مايو كلينيك وجون هوبكنز وكليفلاند وغيرها، لإجراء العمليّات المعقّدة والنادرة، فإذا ما قارنتها نوعًا وعددًا مع أحد هذه المشافي العالمية المرموقة وجدتها ذات رقم منافس وبتكلفة أقل إذا ما احتسبت مصاريف السفر والأرقام الفلكية للعلاج.
تداعت إلى صاحبنا – وذهنه يسترجع صور تلك الصروح الطبية السعودية السبعة الشامخة تكمّلها المصحّات الأهلية الناجحة – صور حال الجزيرة العربية قبل عقود وتاريخ بداية الطب فيها، عندما كان الطبيب الرحالة لويس ديم من «التبشيرية» الأميركية في البحرين يزور – على بعير – بلدات نجد بموافقة الملك عبد العزيز حاملاً في حقيبته عقاقير لكل الأمراض، وكذلك الشأن بالنسبة لمدن الحجاز والأحساء وعسير، ثم تداعت على الذاكرة صورة ذلك النطاسي النجدي الرائد (البسام) الذي تخرّج في الهند وعاد إلى مسقط رأسه في الأربعينات، يتسابق نحوه مواطنوه في منزله وفي الأسواق طالبين منه العلاج البسيط لعلل ظاهرة وباطنة.
واليوم تجرى في السعودية أعقد العمليات الجراحية (من فصل التوائم إلى زراعة القلب والكبد والنخاع العظمي) ولا يختار الآلاف من المرضى إلا أن تتمّ بين أهليهم وذويهم داخل وطنهم، بدلاً من إجرائها في المصحات العالمية.
وبعد؛ ليس الهدف من عرض هذه الخواطر كشف البُعد الشخصي منها، لكن العارض الذي مرّ به صاحبنا كان حالةً تقاطر فيها الوفاء من كل جانب، وظلّلها المقدور الإيماني، وتخلّلها القرآن الكريم مُؤنسًا للسمع والبصر، تجلّت فيه الآية الكريمة «ورحمة ربك خير مما يجمعون».