ما من شخصيّة معاصرة يستعيد السعوديون أسطورة دهائها ومناوراتها السياسية وما حالف خطواتها التوحيدية من حظّ وتوفيق، مثل شخصيّة مؤسس الدولة (الملك عبد العزيز 1883 – 1953) الذي كافح ثلاثة وخمسين عامًا من أجل توحيد بلاده، قضى نصفها في كرّ وفرّ، والنصف الثاني في بناء وتنظيم، واكتسب أبناؤه الستة والثلاثون معرفة وافية بتاريخه، وبالأحداث التي مرّت بالدولة منذ قيامها قبل ثلاثة قرون، والمراحل الثلاث التي اجتازتها، يضيفون إلى ذلك معرفة بجغرافيا الجزيرة العربية وبحاضرتها وباديتها وبموروثها من الشعر النبطي وبالتقاليد العربية، وحذقًا بمهارة القنص والفروسية ورقصة الحرب المتوارثة (العرضة) وهي مهارات تُـكتسب من خلال الهواية والممارسة منذ الصغر.
وقُدِر لابنه الخامس والعشرين سلمان – كغيره من إخوته – أن يُقارب في أسلوب حياته لمدرسة والده وعاداته، ويقترب من تاريخه، ويكتسب مهارة القيادة وهيبتها وإرث الاستحقاق للحكم من خلال فرص تراكميّة متنوّعة أُتيحت له عبر السنين، فكانوا جميعًا يشتركون بالاستعداد الفطري والشّبه في الملامح والعادات والتقاليد واللهجة والصوت، وهو أمر طبيعي بحكم الوراثة والبيئة التي نشأوا فيها والتربية المتجانسة التي تلقّوها قريبًا من والدهم، مما نتج عنه تقاربٌ في التكوين وتشابهٌ في نمط المعيشة وأسلوب الحياة. لقد تناول كثير من الباحثين – ومنهم فيلبي والزركلي والريحاني – بعضًا من ملامح شخصية الملك المؤسس، وظل الأبناء يستعيدونها في مجالسهم فخورين بأسلوبه الأبوي التربوي توجيهًا وممارسة، ويُقرّرون أن المدرسة الأولى التي تخرّجوا فيها كانت مدرسته، وروى بعضهم شيئا من ذكرياتهم معه، واقتصر أكثرهم على روايتها شفويًّا دون تسجيلها مصوّرة أو تدوينها مطبوعة.
كانت ولادة الملك سلمان في الرياض في مطلع عام 1936، وبدأت حياته السياسية والإدارية في منتصف الخمسينات نائبا عن أخيه الأمير الراحل نايف أمير منطقة الرياض آنذاك، وبعد عام تولّى إمارة الرياض بالأصالة مدة تربو على خمس سنوات انتهت باستقالته، ثم عاد بعد عامين في المنصب نفسه حاكمًا إداريًّا لمنطقة الرياض مدة تقارب خمسين عامًا، انتهت بتعيينه – بعد وفاة أخيه الأمير سلطان في أكتوبر (تشرين الأول) 2011 – وزيرا للدفاع ونائبا ثانيًا لرئيس مجلس الوزراء. وبعد رحيل ولي العهد الأمير نايف في يونيو (حزيران) 2012 اختير وليًّا للعهد ونائبا لرئيس مجلس الوزراء، ثم ملكًا على البلاد في يناير (كانون الثاني) 2015 خلفًا للملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز.
من هنا، تتجلَى حصيلة خبراته الواسعة في شؤون الحكم المحلي، وكان – نتيجة مسؤوليّاته وموقعه الأُسَري وحنكته الذهنية، وبحكم موقعه أميرا للعاصمة والمنطقة المحيطة بها وسط البلاد – من أكثر أمراء المناطق التصاقًا بالملوك الستة السابقين الذين تعاقبوا على حكم المملكة العربية السعودية بدءًا بوالده الملك المؤسس عبد العزيز (المتوفّى سنة 1953) وقد جعلته المدة الطويلة التي أمضاها في هذا المنصب يرتبط في أذهان السعوديين بالخبرات الإدارية والتنموية والسياسية الواسعة التي اكتسبها في تلك الوظيفة، وبالنجاحات التي حققتها العاصمة على يديه، وبقربه من مركز صناعة القرار.
كانت الرياض العاصمة عندما تولّى مسؤولياتها بوصفه الحاكم الإداري لها، لا تتجاوز بضع مئات من الكيلومترات المربّعة، ولما أسلمها لخلفه من بعده – أخيه الأمير الراحل سطّام – كانت قد تجاوزت في اتساعها الأضعاف، وزاد عدد سكانها في خمسين عامًا من نحو مائة ألف إلى خمسة ملايين بنسبة نموّ سنوي مذهلة، لكن العبرة لم تكن في نموها الجغرافي والسكاني فحسب، بل في الجوانب العمرانية والتنموية النوعية التي تحققت فيها، وبعدد المؤسسات التعليمية والصحية والاقتصادية والترفيهية والثقافية التي تضمّها، فضلاً عن وجود هيئة تطوير تشرف على المشروعات الكبيرة فيها، منذ أن انتقلت الهيئات الدبلوماسية من جدة إلى الرياض قبل ثلاثة عقود.
ويطلّ مكتب أمير منطقة الرياض في قصر الحكم في وسط العاصمة، الذي مكث فيه الملك سلمان نحو خمسة عقود، على ساحة «الصفاة» التي يطلق عليها في التراث العربي «القصبة» أي مقر الحاكم، وكان والده وأجداده يسكنون في هذه المنطقة التاريخية المحاطة بسور يديرون منها شؤون البلاد، وقد خرجت مساكنها عن دائرة السور في أواخر عهد الملك عبد العزيز، أما مزارعها فقد أُنشئت داخل السور وخارجه منذ قديم الزمان، وكانت الرياض قد اتخذها جده الإمام تركي عاصمة للدولة السعودية الثانية في أواخر القرن الثامن عشر بدلاً من العاصمة التاريخية (الدرعية) التي دمّرها الأتراك سنة 1818، واستمر القصر حتى الآن يعرف بقصر الحكم تُقام فيه المناسبات الوطنية الكبرى من عزاء أو بيعة أو معايدة أو نحوها، وشهد هذا القصر كل الاستقبالات والحكايات التاريخية التي ترويها سيرة الملك عبد العزيز، وإلى جوار قصر الحكم هذا يوجد حصن تاريخي يطلق عليه قصر «المصمك» كان يستخدم سكنًا للحاكم، يعود بناؤه إلى نهاية القرن التاسع عشر، وتكمن شهرته في أن شرارة استعادة الرياض انطلقت منه عام 1902 ويُوظّف الآن مَعْـلمًا تراثيًّا وسياحيا يحكي قصة استرداد الرياض وقيام الدولة في حقبتها الثالثة المعاصرة، كما سُمي المسجد الرئيسي الكبير المرتبط بالقصر باسم مؤسس الرياض الإمام تركي (الجد الثاني للملك عبد العزيز وحفيد مؤسس الدولة السعودية عام 1775) وقد جُدّدت هذه المنطقة التاريخية عام 1999 بمناسبة الذكرى المئويّة لتأسيس المملكة العربية السعودية.
وبالإضافة إلى كفاياته الذهنية ومواهبه القيادية ومعارفه التاريخية الواسعة، مكَنته المدة الزمنية التي أمضاها حاكمًا إداريًا للمنطقة من أن يعرف تفاصيلها، ويحفظَ تاريخ تطوّرها، ويصبح خازنًا لوثائق نموّها، وهي ميزة تحتسب لمدرسة الاستمرار في الوظيفة عند توافر الكفاية، ذلك أنه كلما فرغ من برنامج تكشّف ما في ذهنه من برامج قادمة، حتى صار مع الأيام محرك التنمية الرئيسي، على أن اختصاصه بهذه المنطقة، ما كان ليحصر معرفته فيها وحدها، فهو المحيط بقدر كبير من المعلومات عن بقية المناطق من جازان ونجران إلى الخفجي وعرعر ووادي السرحان.
لقد مكّنته جاذبية الشخصيّة وعلاقاته الواسعة في الداخل والخارج، من أن يحتفظ بسجل طويل من الصلات مع المواطنين في شرق المملكة وغربها ومن خليج الجزيرة إلى بحرها الأحمر، ناهيك عن صلاته الوثيقة مع العرب والأجانب، وهو أمر لا يحوزه إلا الندرة من الحكام وولاة الأقاليم في العالم، واستطاع طيلة فترة إمارته للرياض – التي أمضى فيها قصة عشق قلّ أن يتكرر مثلها في مدن عالمية شبيهة ومن خلال شخصيّته وأسلوب إدارته ومثابرته على اللقاءات والمواعيد والزيارات والضيافات وعبر معرفة الأُسر والقبائل وفروع البادية، وملازمة الملوك السابقين – استطاع أن يُكرّس كثيرًا من السمات التي كان يتبعها والده وإخوته في ممارسة الحكم، فأصبحت تطبيقات سلمان تُـذكّر بما كان يتمّ في ساحة قصر الحكم من بطولات واستقبالات، حتى لكأن الزائر لهذه المنطقة التاريخية اليوم يشاهد فيلما وثائقيًّا يروي قصصًا تعود إلى قرون مضت، يوم أن كانت ساحة الصفاة تعجّ بركائب الوافدين وبالتبادلات التجارية.
وفي عام 2011 غادر سلمان منصبه الذي أحبّه، ليبدأ بعد وفاة الأمير سلطان التدرّج صعودًا نحو المناصب الأكثر سياديّة، فأصبح وزيرا للدفاع نائبا لرئيس مجلس الوزراء، وقد ترك – كما سلف – وراءه رواية لا تمّحى فصولها مع معشوقته (الرياض) التي جاب بعض الدول والمدن في العالم – ومنها أتلانتا وبوسطن ونيويورك ولوس أنجليس ودالاس وواشنطن – ليعرض فيها تجربتها التنموية.
وفي تقدير الكثيرين في المجتمع، أن من أبرز صفاته التي أحبها الشعب فيه محافظته على طبائع تكاد تذبل في عصرنا الحاضر، ومنها مباشرة أعماله في ساعات الصباح المبكر، والتزامه الدؤوب بلقاء المواطنين والمقيمين مرتين في اليوم، ومرة في داره في الأسبوع، في تطبيق عملي وحَرفي لسياسة «الباب المفتوح» التي طالما افتخرت بها الأنظمة والتكوينات الخليجية كافة، وامتازت على غيرها بها.
وتقليد «الباب المفتوح» هذا، مظهر يلقي بالمسؤولية على الحاكم والمحكوم معًا في تبادل الرأي والمشورة في قضايا المجتمع، ثم أصبح المقياس الأول في تقويم المواطنين للاستعداد النفسي لحاكم المنطقة للتعرّف على أحوال الناس، والاختبار الأبرز لجاهزيته القيادية، فعندما يُطرح اسم أمير إحدى المناطق الإدارية السعودية الثلاث عشرة للتداول بين الناس يكون السؤال الأهم الذي يتصدر النقاش عنه هو عن مدى الأخذ بهذا المبدأ والحفاظ عليه، ويكون تطبيقه هو المعيار الأبرز في الحكم على قدراته ونجاحاته.
على الصعيد الثقافي، يرتبط المثقّفون بصلات وثيقة معه، حيث يجري على ألسنتهم لقب «صديق الإعلاميين» الذين تعوّدوا أن يتلقّوا اتصالات منه، تكون غالبا في ساعات الصباح المبكر بعد أن يكون قد سهر على قراءة كتبهم ليلاً أو اطَلع على مقالاتهم المنشورة صباحًا – فيبدي رأيه بما كتبوا، ثناءً أو نقدًا أو توضيحًا أو تعليقًا.
إن صحائف بالعشرات يمكن أن تضاف إلى سيرة الملك سلمان التي لم تكتب بعدُ ولم يسعَ إلى تدوينها، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو عن المؤثرات التي صاغت فكره وشخصيّته وساعدت في تكوين مفاتيحها، وفي ظني أنها – بالإضافة إلى استعداده الفطري والذهني وإلى قراءاته العميقة في سيرة والده – تمثّلت في المنهج الفكري والسياسي المتقارب لإخوته الذين لازمهم طويلاً واطلع عن قرب على فكرهم السياسي وغرف من أساليبهم في معالجة الأمور الاجتماعية، فهو يجمع بين الفهم التنويري للتديّن، والتناغم المتوازن بين الثابت والمتغيّر، والتدرّج في الإصلاح والانفتاح، وترسيخ التقاليد المحافظة التي قامت عليها البلاد، ولو تأمّلنا فيها مليًّا لوجدنا أنها نبعت من مكوّنات شخصيّة والدهم الراحل، كما يمكن القول إنه بقدر ما كرّس عبر العقود تقاليد والده وقيَم الأسرة المالكة، فإنه أسس لأنماط متجدّدة من «البروتوكولات» الاجتماعية التي تستند إلى مخزون من التراث والأصالة في بيئة الجزيرة العربية.
وأما المقوّم الثاني، فهو رئاسته لمجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز، المركز التوثيقي والبحثي الأول لحفظ تاريخ الجزيرة العربية والمملكة العربية السعودية وسيرة مؤسسها والأسرة المالكة، فلقد يسّر له الاقتراب المباشر مع الدارة أن يمارس هوايته في ألا يترك كتابًا تطرّق كليًّا أو جزئيًّا إلى سيرة الملك المؤسس والدولة السعودية إلا وأحاط به أو علّق على ما فيه، حتى صار يحفظ تراث البلاد حفظًا علميًّا، يتتبع من خلاله ما كتب عنه، ويُفنّد أي التباسات تحيط بسيرة رجالاتها، ويُوجّه بإجراء البحوث حول أي غموض يحتاج إلى استقصاء، وأتاح له ولعه بالقراءة السريعة فرصة الإحاطة بما يرغب الاطلاع عليه سواءً من الكتب أو من المقالات، مشيرًا في هذا السياق إلى مكتبته الخاصة الثريّة بالكتب والوثائق، يتناوب موظفوها بين تنظيم محتوياتها والتنقّل بالقرب منه لتلبية متطلباته وكل أبنائه للقراءة أو للتنقيب عن معلومة.
هذه بضع إضاءات على سيرته أميرا، فماذا عسى أن يُقال عن بضعة أشهُر أمضاها ملكًا، وقد فاجأ المجتمع منذ يومه الأول بقرارات حاسمة تُعزّز الحزم، وتجسّد خبراته التراكمية، وتنبئ عن وعي بمحيطه وفهم لمجتمعه واستيعاب لواقعه العربي، وتفجّرت قريحته عن إصرار على تجديد كيان الدولة بدماء شابة، وعلى تحديث بيئة القضاء والتعليم ومفاصل الإدارة والخدمات بروح وثّابة وطاقات غير متثائبة، وعلى توجّه نحو تغيير المعادلة التقليدية وموازين القوة في الشرق الأوسط، وهو ما يبشر بأن السعودية أمام عهد جديد يرتكز على مبادئ الماضي وتباشير المستقبل.
ولا تكتمل هذه اللمحات دون الإشارة إلى سمات البعد الإنساني في شخصيّته، وهو شأن جدير بمقال مستقل، أستدعي منها ثلاث سِمَات ؛ أولها حجم الشفاعات الخفيّة والظاهرة التي يتوسّط بها لحل النزاعات بين الفرقاء، مما قد يُفضي نجاح الصلح فيها إلى درء القصاص فيما لو وصلت إلى منابر القضاء، وما كان المجتمع ليستجيب لمثل هذه الشفاعات لولا «الكاريزما» الرزينة التي اعتمرها في القلوب منذ أن تبوأ منصّة العاصمة في خمسينات القرن الماضي.
الثانية: سمة الوفاء وهي من أكثر المناقب الواضحة فيه، فمن طبعه أن يستذكر ما كان لأسرة من يقابله من دور في بناء البلاد، وقد أفادته قراءاته ومعرفته بالتاريخ في إنزال الناس منازلهم وفي تقدير جهودهم، وبخاصة فيما يتصل بتأسيس الدولة.
وأما الثالثة؛ فهي ما يتحلّى به من حب الدعابات المرحة التي يشعّ بها مُحيّاه حينما يستقبل عارفيه، وأحسب أن تلك الابتسامات الحميمة لم تكن لتُخفي حزنه الأبوي الدفين بفقد نجليه؛ فهد وأحمد في عامين متتاليين (2001 و2002).
* إعلامي وباحث سعودي