شخصية الجنادرية والفقيه المكي: عبد الوهاب أبو سليمان


من الكفاءات النادرة في المجتمع السعودي، البعيدة عن الأضواء، فقيه عصري مستنير، بلغ مرتبة علمية وبحثية رفيعة، وهو يتوارى في مجتمعه القريب في مكة المكرمة، فكيف بما حولها أو أبعد، من المدن والقرى.

منذ عرفته في مناسبة ثقافية في النادي الأدبي بمكة المكرمة قبل عقدين، ثم شاركته قبل أعوام في ندوة الجنادرية (عالمية الإسلام)، والرجل يزداد في العين منزلة بعلمه، وقدرا بتواضعه، ورفعة لخلقه، واحتراما لجهوده في البحث والاستقصاء، يضيف المرء بمعرفته أسهما نوعية إلى أرصدته، ويتمنى لو عرفه منذ زمن.

ولعل قراءة في سيرته، تكشف بعض مكامن التميز والاختلاف عنده، ففي البداية، تبرز نشأته في مكة المكرمة، أسرة ومولدا وتربية ودراسة، وهي ميزة كل من ترعرع في هذه المدينة المقدسة، ونهل من إرثها المعرفي وكنزها الروحي الثمين.

والاستدلال على «عظمة المكان» و«روعته» اللتين تتجليان في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ليس أمرا غريبا ولا جديدا، لكنه نادرا ما يعار من الاهتمام في دراسات السير الذاتية ما يستحق، وقد وفى الدكتور أبو سليمان انتماءه هذا، خاصة المقدسات، بكثير من دراساته واهتماماته البحثية.

إن من درس في مكة المكرمة والمدينة المنورة، بجوار الحرمين الشريفين، حيث تلتقي الثقافات، ويجتمع العلماء من أصقاع العالم الإسلامي، تتميز دراساته بالعمق والانفتاح، يلحظ ذلك من أهلهما، وممن يهاجر إليهما مجاورا من أنحاء أخرى من السعودية (مثل الشيخ محمد بن جبير والشيخ حمد الجاسر والدكتور عبد العزيز الخويطر والشيخ عبد الله بن خميس والشيخ عبد العزيز المسند والشيخ حسن آل الشيخ.. وغيرهم كثيرون).

ثم يأتي محيط الأسرة، إذ كانت أسرة علم وتربية وثقافة يوجد فيها مثل أبناء عمومته الدكتور عبد الحميد الذي انتدب مديرا للجامعة الإسلامية في ماليزيا، والأستاذ جميل أبو سليمان الذي تقلب في عدد من المناصب التعليمية والثقافية.

ثم يصل المرء إلى عامل ثالث في غاية الأهمية، وهو الابتعاث للخارج (إلى بريطانيا) لدراسة الفقه، والحصول على الدكتوراه من جامعة لندن (1970) مع دبلوم إضافي في الدراسات الحقوقية والقانون الإنجليزي من لندن أيضا.

إن بعض مؤسسات التعليم العالي السعودية تتمسك مؤخرا بالابتعاث الداخلي للدراسات العربية والإسلامية، وذلك لتوافر متطلباتها محليا، ومع التسليم بصحة ذلك، فإن الابتعاث إلى الخارج صار يفتح للمبتعث آفاقا لا تحصى، فالمسألة ليست مسألة كتب ومعلمين، بقدر ما هو التثقيف وتنويع مصادر المعرفة، والدليل على ذلك أن الدكتور أبو سليمان يتميز بين أعضاء هيئة كبار العلماء بإجادة لغة أجنبية، ولولا لغته لما تمكن – كما سيأتي – من أن يقضي عام (1977) باحثا ومحاضرا في الفقه الإسلامي في جامعة هارفارد وبوسطن، وعاما لاحقا آخر أستاذا زائرا في جامعة ديوك الأميركية، ولا أن يمثل المملكة في مؤتمرات القانون الدولي.

أما السمة الرابعة لكفاءته، فهي التمازج بين الفقه الشرعي والقانون الدولي، مما يندر بين علمائنا اليوم، مع أن ظروف الانفتاح على العالم توجب أن يكون بيننا ملمون بدراسات المقارنة.

الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان لا توفيه مقالة، ولكن حسب هذه السطور أن تلمح إلى أعلام، يعيشون بيننا، تمنعهم عزة النفس من الظهور، والإعلام لا يبحث عنهم:

* السائح في سيرته، والمتجول في معرض حياته، يتوقف طويلا أمام لوحات ناطقة، لافتة للنظر، تبدأ بصورة ذلك اليتيم الذي ولد عام 1356هـ (1973) في مكة المكرمة، والتحق بمدرسة دار الأيتام، ذلك أن اليتم كثيرا ما يؤدي إلى النبوغ متى ما حظي الصغير بالرعاية الحانية الراشدة، فلقد توفي والده وعبد الوهاب في الخامسة من العمر.

* ثم إنه بعد تخرجه في كلية الشريعة في المدينة المقدسة، أولى ركائز التعليم العالي في المملكة، وتعيينه عام (1957) معلما للفقه والتفسير في إحدى مدارس مكة المكرمة، لم يصبه الغرور بشهادته الجامعية، التي كانت تعد آنذاك عملة صعبة تتلقفها أجهزة الدولة والقضاء، بل سعى إلى ملازمة الشيخ حسن مشاط، الفقيه القاضي والمدرس بالحرم الشريف، ملازمة دامت، في المنزل وفي الحرم، سبع سنوات، تلقن فيها تطبيقات في العلوم الشرعية والعربية فوق ما درسه في كليته (والشيخ المشاط، أحد كبار علماء الحرم، وهو خريج المدرسة الصولتية، وقد توفي عام 1399هـ – 1979، مخلفا أكثر من 15 مؤلفا)، ثم اختير الدكتور عبد الوهاب بعد ستة أعوام مدرسا في كلية الشريعة، وقد تزوج ورزق بأنس وأربع بنات.

* اللوحة الثالثة المعبرة، هي ابتعاثه لنيل الدكتوراه من بريطانيا عام 1385هـ (1965) في الفقه المقارن من جامعة لندن، مع دبلوم عال في الحقوق، وقد عاد بعد خمسة أعوام ليصبح عميدا لكليته، ويبلغ الأستاذية، ويشارك في لجان تطوير المناهج وفي تقويم الشهادات وفي المجلس العلمي.

* ثم ينتقل الدكتور أبو سليمان إلى طور العالمية في حياته العلمية، فلقد انتدب أستاذا باحثا في الفقه الإسلامي بجامعتي هارفارد وبوسطن، وفي عام آخر إلى جامعة ديوك، وفي عام ثالث إلى الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، وفي عام رابع إلى جامعة الإمارات، كما شارك في عضوية لجان الخبرة في مجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي، وهيئة الزكاة بالكويت، واللجنة العلمية بالبنك الإسلامي للتنمية، ومشروع الفقه المالكي بدبي وغيرها.

* أما اللوحة الخامسة، وهي الأرحب، فتمثل مجال الإنتاج العلمي للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، إذ سبح في عالم التحقيق والبحث والتأليف والمحاضرات، فألف ستة كتب في الفقه الإسلامي وثلاثة كتب في الدراسات الأصولية، وستة كتب في منهجية البحث العلمي، وستة كتب في دراسات التاريخ والعقائد.

* كما قدم الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان بحوثا عدة في قضايا الزكاة، وفي عقود المعاملات، والتعامل مع «النوازل» وفي أمور فقهية حديثة متنوعة، وخص المشاعر المقدسة والحرم المكي الشريف ومناسك الحج بالكثير من أبحاثه ودراساته، ومحاضراته، التي تميزت بالأصالة.

فالعلامة الفارقة في تحصيله هي تركيزه على قضايا معاصرة في الفقه الإسلامي، مثل عقود التأمين ومواقيت الحج والبطاقات البنكية والوقف وفقه الضرورات، وهو في تميزه يتمم الجهود التي بذلها علماء محدثون من أمثال الدكتور صالح بن حميد والدكتور بكر أبو زيد، والدكتور يعقوب الباحسين.

* ومما يقدر له أيضا، جهوده في مسألة تدوين الأحكام الفقهية على المذاهب الإسلامية الراجحة، والدعوة لتقنينها، فالدكتور عبد الوهاب – بمشاركة زميله الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي – وجه قسطا من أعماله لتحقيق مجلة الأحكام الفقهية (لأحمد قاري) التي ظهرت في بدايات عهد الملك عبد العزيز في الحجاز، يضاف إلى ذلك كثرة تأمله في المذاهب الإسلامية الأخرى، وخاصة الشافعية، لاستكشاف فوائد التيسير فيها على المسلمين.

* لقد جاءت ذروة التقدير لبلوغه درجة عالية من التأهيل العلمي والمعرفي في مجال الشريعة والفقه المقارن والدراسات القانونية في اختياره عام 1413هـ (1993) عضوا في هيئة كبار العلماء، وهي ثقة تدلل على منزلة نزاهته، وتكريم يليق بصدقيته وتواضعه، كما حاز مؤخرا على جائزة كتاب العام في دورته الأولى من النادي الأدبي بالرياض نظير كتابه الوثائقي المتميز عن باب السلام (أحد أبواب الحرم المكي الشريف)، وقد اختير أبو سليمان قريبا عضوا في مجلس أمناء مركز تاريخ مكة المكرمة المنبثق عن دارة الملك عبد العزيز.