عبدالرحمن المنصور الزامل .. رؤية أسرية


بدايةً، إذا لم تكن كلماتي في هذا المقام، بحق ضيفنا المحتفى به، تمثل شهادة مجروحة، فهي في الأقل مفعمة بعاطفة، ويشفع لي أن كل من حضر يفوق في مشاعره ما تتضمنه تلك العاطفة.
فهذه الكلمات، محاولة لإلقاء الضوء على جانب من شخصيته، من زاوية أسرية، قد يتردد الأقربون المباشرون من آل المنصور في عرضها، حرصاً على ترك المجال لغيرهم، لكنني لأ أود ان أخلف انطباعاً بأن ما اغرس فيه من خصال، وما عرف عنه من مآثر، إنما تعود إلى جذور نسب أو تأثير رحم، فكم من فرع خالف أصله الذي انحدر منه، وكم من إنسان خالف المحيط الذي نشأ فيه، بالزيادة أو بالنقصان.
لقد قدّر لي، علاوة على صلة أسرية قديمة به من جهة والدته وزوجة شقيقه وزوج شقيقته، أن أتعمق في سيرة الشيخ عبدالرحمن المنصور الزامل من خلال عملين وثائقيين:
أولهما: كتابي التوثيقي الذي أصدرته قبل سبعة أعوام عن سيرة السفير الراحل محمد الحمد الشبيلي، وهو ابن خالته، وأخوه في الرضاعة، وبالتالي نظيره في عمره، وقرينه في بيته، ورفيقه في درب الحياة، لقد كان الشيخ أبو منصور واحداً من أهم مصادري الأوليّة في البحث عن المعلومة وجمعها والتوثق منها، ولا أنسى ليلة من ليالي ذلك الكتاب، عندما (احتجزت) في مكتبتي كلاً من الشيخ عبدالرحمن المنصور الزامل والشيخ صالح العبدالمحسن الشملان (رحمه الله) والشيخ عبدالعزيز السليمان الذكير، والأستاذ سليمان المحمد الشبيلي وغيرهم، لأتلو عليهم أجزاءً من فصوله الرئيسية، للتأكد من معلوماتها، والتثبّت من أحداثها، والتعرّف على صورها، ثم بقيت على صلة مستمرة معهم لمزيد من المراجعة والتحقيق والتوثيق، فجزاهم الله خيراً ما أسدوه للكتاب من مرجعيّة لمعظم معلوماته، وتذكير بوقائعه، وتوكيد لتواريخه، وإرشاد لمظان مصادره.
أما العمل الثاني: فهو مقابلة توثيقية مسجلة، حاولت من خلالها رصد ما يختزنه من معلومات من أسرته وسيرته وموطنه، واستكشاف مواطن العوامل الخيّرة في تركيبته، وهي محاولات بدأت بها منذ ربع قرن، املاً في أن تحفظ للأجيال سجلاً مصوراً لبعض رجالات هذا الوطن الكبير الغالي.
قد لا يكون أبو منصور أكبر الموجودين اليوم، لكنه بما مر عليه من تجارب، وفيما عاش من أحداث، يدخّر كنزاً من المعلومات عن تاريخ هذه البلاد وتطورها، فضلاً عن كونه يكتب مع أقرانه من رجالات هذه المدينة، إرثاً مضيئاً تفخر به، عندما يكون الحديث عمن أنجبتهم من الأفذاذ، ممن لم يبخلوا عليها بما قدروا عليه من مشاعر أو مواقف أو مال أو استثمار، وكانت قلوبهم على الدوام موقوفة على هذه المدينة بخاصة وعلى المملكة بعامة، مغروسة فيها، كغرس أصولهم، وعمق جذور منابتهم ومنازلهم.
وعندما اختار الارتحال الى البحرين ثم الكويت، فإنه ظل الوفيّ لموطنه، العطوف في ضيوفه وزواره، حتى صار بحق، نعم السفير الاقتصادي والاجتماعي لبلده في منطقة الخليج، فاستحق في هذه الليلة، من هذه المدينة، وبحضور أميرنا الحبيب ومحافظنا النبيل، أن تبادله الوفاء، وأن تحفر اسمه في معالمها، وأن تجازيه بما يستحق من الذكر، وما يحتاج إليه من الدعاء.
واسمحوا لي أيها الحفل الكريم، أن اعود إلى ما بدأت به لأقول إن من يقرأ في صفحات كتابي عن سيرة ابن خالته (ابو سليمان محمد الحمد الشبيلي) يدرك بما لا يدع مجالاً للشك أنهما غرفا من معين واحد، وخرجا من أرومة واحدة، حتى ظللت أعتقد أن الواحد منهما يفسّر الثاني، وأن عوامل الإنسانية في ضيفنا العزيز تقرأ من سيرة الأول وبالعكس.
هكذا عرفنا الشيخ عبدالرحمن منذ عقود، يشارك أهله وعشيرته ومجتمعه أفراحهم وأتراحهم، يحرص على مناسباتهم، يتفقد احوالهم ويعود مرضاهم، كل ذلك في بذل وتواضع وبر وتفصّي واهتمام مما سيبسط في هذه الأمسية.
كانت ولادة الشيخ الزامل في سنة 1332ه في وسط هذه المدينة، في الناحية الجنوبية الشرقية من جامعها، في محلة تسمى الجادة، في منزل جده لأمه الموجود آنذاك، سليمان الناصر الشبيلي، وكان والداه وإخوانه يقيمون على امتداد الجادة في مكان يسمى البرغوش، تربى في كنف والده منصور البراهيم الزامل الذي توفي في منتصف الخمسينات، قريباً من أخويه الشيخين الورعين: محمد المنصور الزامل الذي كان يكبره بأكثر من عشرة أعوام، وعبدالله كان يزيد عليه بثلاثة، مع أخواتهم الأربع، ولعل عمهم الوحيد عبدالله البراهيم المنصور حفظه الله يعد اليوم عميد أسرة الزامل، التي تعود الى سبيع، وتنحدر منها الأسر المعروفة اليوم: السليم والمنصور والروق واليحيى السليم.
وقد تزوج الشيخ عبدالرحمن أربع مرات، وله من الأولاد اربعة ذكور وثمان بنات.
***
نشأ الشيخ عبدالرحمن قريباً من خاله محمد السليمان الشبيلي، الذي توفي في منتصف الستينات الهجرية، وعايش الزيارات المتكررة للملك عبدالعزيز رحمه الله لهذه المدينة، ومصاهرة جلالته سبعة من بيوتاتها من أسر الزامل والسليم والذكير والشبيلي، وولادة بنت واحدة من إحدى تلك الزوجات, فتّح الشيخ عبدالرحمن عينيه على الدنيا قبل تخلي الأمير عبدالعزيز بن عبدالله السليم عن أمارة عنيزة لعبدالله الخالد السليم في عام 1335ه لكنه أدرك الأول في بقية حياته، وعايش الثاني طيلة فترته التي امتدت أربعين عاماً، أما بالنسبة لحوادث توحيد الوطن، فلابد أنه ولد قبيل وقعة جراب سنة 1333ه، فكان يسمع في طفولته ما تبقى من حكاياتها وخاصة فيما يتصل بمقتل صالح الزامل فيها، كما يعي سنة الرحمة التي أصابت نجداً وتوفي بسببها أعداد كبيرة من أهاليها، ومنهم جده ابراهيم المنصور الزامل، لكنه يتذكر جيدا وقعة السبلة سنة 1347ه وما جرى بعدها من أحداث.
ويتذكر أبو منصور في صغره أسوار المدينة ومزارعها، وقد ختم القرآن الكريم على يد الشيخ عبدالرحمن الدامغ (وهو جد فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين وإخوانه لوالدتهم)، ثم درس على الشيخين صالح وعبدالرحمن العبدالله السالم القرزعي، اللذين سعيا الى تحديث التعليم، والتحق بحلقة الشيخ عبدالرحمن السعدي، ثم بمدرسة حديثة خاصة أسسها سنة 1348ه الأستاذ صالح بن ناصر الصالح في ركن من منزل خاله محمد السليمان الشبيلي بالجادة، والتي افتتحت بتشجيع من أخيه الأكبر محمد المنصور الزامل، وقدم طلابها صوراً من نشاطهم أمام الملك عبدالعزيز الذي كان يقيم في منزل خاله المجاور، كما روى لنا الشيخ عثمان الصالح ذلك في هذا المركز قبل عام ونصف، وقد انتقل أبومنصور مع المدرسة عند انتقالها الى بيت السلمان المعروف بالسلسلة وذلك قبل إنشاء المدرسة العزيزية الحكومية سنة 1356ه.
وكان من أصدقاء طفولته في تلك المدرسة كل من سليمان العبدالله العوهلي وعبدالله السليمان المزيد وعبدالله الصالح العيسى رحمهم الله وعبدالرحمن العلي السعيد حفظه الله .
لم يأخذ ابو منصور فرص الدراسة هذه مأخذ الجد، كما ان (مشلّة) الاستاذ صالح لم تخفف من حدة شقاوته، لكن الحظ كان يبتسم له من بعيد، عندما أقلتّه (ركايب) عبدالله الحمد الجريفاني في أوائل عام 1349ه في رحلة دامت أسبوعين عبر متاهات الدهناء المهلكة إلى الأحساء، برفقة ثمانية من رجالات هذه المدينة، وكانت أول رحلة له خارج عنيزة، وقد استقل من هناك اول سيارة في حياته الى مياه الخليج ومنها الى البحرين، الطريف انه لم يمض عامان حتى صار من أوائل من امتطى الطائرة في رحلة من البحرين الى الشارقة عام 1351ه، برفقة رجل الأعمال البحريني المعروف يوسف كانو.
وقبل أن أختتم رواية قصة نجاحه، والحظ الذي كان ينتظره في البحرين، لابد من الإتيان على ذكر شخصين كان لهما فيما بعد اثر كبير في حياته، ولا تكتمل سيرته دون الحديث عنهما:
الشخصية الاولى: الشيخ عبدالله الحمد الزامل، الذي كان يقيم مع الشيخ حمد السليمان الروق تجارة بين نجد والبحرين منذ أوائل القرن الهجري الفائت، فهو الذي شجعه على الرحيل، وهناك أقام خمسة عشر عاماً، أمضى سنة منها مع الزامل والروق، وأمضى بقيتها مع كانو وأولاده، الذين منحوه الثقة في مسك مصاريف الشركة والإشراف على مستودعاتها، وقد اندلعت الحرب العالمية الثانية وهو هناك, اما الشخصية الثانية: فهي الشيخ صالح العبدالرحمن العبدلي، الذي كوّن معه شراكة تجارية منذ أن كانا في البحرين في منتصف الخمسينات الهجرية، قبل أن يختارا الانتقال الى الكويت عام 1364ه، وقد شاركهما، فيما بعد، كل من عبدالله العلي البسام في الأحساء ثم البحرين، وعبدالله المحمد القبلان في الرياض.
لقد أصبحت العلامة التجارية لشركة (المنصور والعبدلي) مضرب المثل في الحميمية ونزاهة التعامل ونقاوة الخواطر والإيثار، حتى توجّت بالتصاهر، وقد ألهمهما الله قبل سنوات من الوفاة المفاجئة للعبدلي، أن يقتسما بالقرعة وبكل المودة والتراضي جل أملاكهما وتجارتهما.
***
ثم قاده عشق قديم لمزرعة الجادة التي ولد بجوارها الى ان يعود الى فلاحة الأرض في بلدته، التي لم يغب عنها سنة واحدة منذ ارتحاله الأول قبل ما يزيد على سبعين عاماً، فاشترى (الغزيلية) المشهورة جنوب البلدة، وكانت مزرعة قديمة للبسام، كما اشترى (دمشية) غرب عنيزة من ورثة الأمير عبدالله الخالد السليم، ليحقق فيها نجاحات لاتقل عما حققه في مجال التجارة والصرافة.
ولم تخل أيامه من المحن، فلقد رزىء بفقد حرمه أم منصور سنة (1407ه)، ثم بوفاة رفيق مشواره صالح العبدلي سنة (1417ه)، اما بالنسبة للتجارة، فلقد كادت مصادرة صفقة من الذهب في الباكستان أن تعصف بتجارته في السبعينات الهجرية، لكن الله عوّضه عنها خيراً في غضون عام.
وكادت سنوات الطفرة أن تسبب له خسارة خانقة في عقد تنفيذ طريق حائل الحناكية، لكن تفهم خادم الحرمين الشريفين ايده الله أسقط عنه ديوناً بالملايين.
***
إن قصة أبو منصور في ليلة الوفاء مليئة بالعبر والدروس:
فمن يراقب الله في كل شؤونه يعش قرير العين مرتاح الضمير.
ومن يف لوطنه ومجتمعه يبادلاه ذلك بالوفاء والعرفان.
ومن يحب الناس يحبه الناس.
والتمسك بأخلاق التجارة سبل للنجاح فيها.
ومن يخلص لبلاده وولي أمرها يجد جزاءه في محنته, إنها قصة تفوّق الأخلاق والبذل، تتوّج هذه الليلة بحضور رموز المجتمع، يحيون فيه المواطن الصالح، ورجل الأعمال الناجح، والزراعي المكافح، ويدعون له بالخير الراجح.
والسلام عليكم ورحمة الله

ألقيت في حفل تكريمه في مركز ابن صالح الثقافي بعنيزة مساء أمس برعاية سمو أمير منطقة القصيم