عبدالعزيز الحقباني .. قرن من ذكريات القيصريات


غيّب الموت أمس رجل الأعمال المعروف الشيخ عبد العزيز بن صالح الحقباني، وهو من الرعيل العصامي الذي شهد مراحل نشوء الاقتصاد السعودي، إذ توزعت أنشطته التجارية على عدة قطاعات، لكن ما يوحدها دائما هو الإصرار والأمانة التي تميز وعرف بها. الدكتور عبد الرحمن الشبيلي يكتب اليوم عن ذكرياته مع الفقيد الذي يعده أحد أقطاب التجارة وبيوتاتها العريقة، ويتطرق إلى علاقته به ومعايشته بعض مراحل حياته، معددا مناقبه وسيرته. ويكشف الشبيلي في مقالته التي لا تحتاج إلى تقديم أنه يمتلك تسجيلا توثيقيا بالصوت والصورة للفقيد يرصد خلاله كفاحه ولمحة عن حياته الحافلة بالعطاء والإخلاص. فيما كان الشائع أن بلدية الرياض قد تأسست في الستينيات الهجرية من القرن الماضي، عثر باحثون على ما يفيد بأنها كانت قد أسست في تاريخ قد يعود إلى الخمسينيات (الثلاثينيات الميلادية)، لكن ما يعنيني في هذا المقام أن هذه البلدية كانت قد أسست في أواخر السبعينيات قيصرية حديثة عرفت باسمها، أقيمت على الطراز الحديث فوق صخرة الصفاة، لملمت شتات بعض البسطات العشوائية، وضمت رموز التجارة الذين انتقلوا إلى هذا (المول) الجديد من قيصريات طينية مجاورة قديمة، وهم الرموز الذين شكلوا فيما بعد أقطاب التجارة وبيوتاتها العريقة في العاصمة، من أمثال: المقيرن والحقباني والراجحي والسبيعي والغنيم وابن سليم والراشد (الحميد) والجميح والعجلان والقبلان والملوحي والقاضي والتخيفي والمشيقح والفريح وغيرهم. وقد أزيلت تلك القيصرية ضمن برنامج تحديث منطقة الديرة وقصر الحكم الذي رافق الاحتفال بمئوية التأسيس (1419هـ/ 1999م)، وكنت أدركت بعض تلك القيصريات التجارية في أواخر السبعينيات (الخمسينيات الميلادية) وبخاصة قيصرية البلدية هذه، واتخذت في أثناء دراستي الجامعية من إحدى شقق تلك القيصرية فوق محال الحقباني، سكناً منفرداً لي، وكنت أحظى برفقة بعض الزملاء، وبمراجعة الدروس، زرافات ووحداناً، معهم في الجامع الكبير قبل أن يطلق عليه اسمه الحالي (الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية)، ونطرب لسماع الصوت الرخيم لمؤذنه الراحل عبد العزيز الماجد. من هنا، وفي تلك الفترة (1380هـ/ 1960م)، بدأت معرفتي بهذا الرمز الكبير من أعلام تجارة الرياض، لا أملك عند الصعود أو النزول من غرفتي (الاستوديو) إلا أن أعرج للسلام على الشيخ الحقباني – رحمه الله – فيخصني – على صغر سني – بالتقدير والملاطفة، وأسمع منه كلمات التشجيع والإطراء مما ظل هو وأنا نتذكره لاحقا من الأعوام. ثم شاء الله، أن تتعزز المعرفة به عبر حلقة من حلقات القرب الأسرية، وظلت صورة هذا الإنسان الجليل راسخة في الذهن ومرجعاً للأحاديث والذكريات منذ أيام الدراسة لدرجة أنني لم أكد أحوز على وسائل تصوير تلفزيونية خاصة حتى أفرغت شيئاً من محبتي له في تسجيل حديث أعتز باقتنائه موثقاً فيه بعضاً من سيرته، ومدوناً فيه كفاح بيته التجاري، وذلك في صبيحة يوم الخميس 22/1/1421هـ (27/4/2000م). يقول الشيخ الحقباني بصوته الجهوري الذي أنهكته السنون، وبأدبه الجم الذي لم ينل منه الإعياء والأعباء، وخلقه الرفيع الذي لم يُنقص منه تآكل الذاكرة: أن أسرته تتحدر من قبيلة تغلبية كانت تنتشر في الجنوب، ثم نزحت إلى الرياض لتقيم لها مزارع في ضواحي (القِري) جنوبي محلة الشميسي، وقد يكون جدها الرابع هو الذي كان اختار هذا الموقع في فترة تغلب الأتراك على نجد (منتصف القرن الثالث عشر الهجري). كان كثير من أهل نجد وباديتها، وأهل معظم المناطق الأخرى، لا يعرفون تاريخ ميلادهم، والأوفر حظاً منهم من يقرن سنة ولادته بحوادث التاريخ والكوارث الطبيعية، ومن هؤلاء شخصية هذا المقال، الذي يربط مولده بأعقاب معركة البكيرية (1322هـ) التي شهدت مقتل عمه، فتزوج والده أرملة أخيه وأنجبته بعد عام أو عامين من تلك الوقعة، وهو ما يقرب من تاريخ ولادة الملك فيصل حسب التقدير، وقد توفي والده في حدود عام 1338هـ مخلفاً عبد العزيز (الأكبر) وأخويه سلمان ومحمد ثم تحولت الأسرة من الفلاحة إلى ممارسة التجارة لتنتقل إلى وسط الرياض وتقطن حيث يقيم معظم وجهاء العاصمة في شارع العطايف في منتصف الخمسينيات الهجرية، وتبدأ ببيع الأقمشة، تبتاعها من مكة المكرمة أو من بلدان الخليج، ثم ما لبثت – بعد دخول الكهرباء – أن اتجهت إلى تجارة الأدوات الكهربائية (المراوح والثلاجات)، ثم ما لبثت علاقاتهم التجارية في منتصف السبعينيات الهجرية الخمسينيات الميلادية، أن امتدت إلى تشيكوسلوفاكيا لاستيراد سيارات ”سكودا” التشيكية المعروفة، مثلما كان ابن خميّس يفعل في الرياض حينما كان يستورد سيارات موسكوفيتش من روسيا. ثم تتعثر ذاكرة الشيخ عبد العزيز الحقباني، الذي كان يدلف إلى المائة من عمره، لتستذكر معرفته بالإمام عبد الرحمن، والد الملك عبد العزيز (المتوفى عام 1346هـ) وشخصيات من أمثال الأمراء سعود بن عبد العزيز الملقب بسعود الكبير، ومحمد بن عبد الرحمن وأخويه عبد الله بن عبد الرحمن ومساعد بن عبد الرحمن وفيصل بن سعد بن عبد الرحمن، كما يتذكر شخصية الأمير فهد بن عبد العزيز (الأول) الذي سمي الملك فهد عليه بعد وفاته وكان أخواله (الدخيل) في بريدة. لكنه يستحضر أسماء أقدم تجار الرياض من أمثال جده علي وابن حماد والشقري، الذين كانوا يحتكرون التجارة مطلع القرن الماضي، قبل دخول الملك عبد العزيز، ويستذكر دون تحديد تواريخ عندما وردت السيارات إلى الرياض، وكيف كان الراديو يستورد خفية في بادئ الأمر. #2# وقد سكن الإخوة (الحقباني) لست سنوات في مكة المكرمة لمزاولة التجارة وربما تكون فكرة تعاملهم في تجارة الأقمشة قد بدأت نتيجة ذلك، حيث يتذكر الشيخ الحقباني أنه سافر للحج مرتين على الركايب (الجمال) عامي 1344هـ و1346هـ، أي بعيد دخول إقليم الحجاز في الحكم السعودي، وأنه في إثر تأخر وصول تحويل بعض المال في رحلته الأولى، استلف مبلغاً من سراج بوقري، تاجر الأقمشة في مكة المكرمة، في بداية تعامل تجاري معه استمر سنوات، وقد سافر إلى جدة، التي كانت آنذاك أقل شأناً في التجارة فتعرّف على الشيخ سالم بن محفوظ، وصارت معه هو الآخر علاقة تجارية امتدت عقوداً ويستطرد الحقباني في سرد ذكرياته فيورد أسماء جيله من التجار (ابن حسينان، والمقيرن، والتخيفي، وابن بطي) وأسماء أقرانه من حيث العمر (عبد الرحمن بن عثمان، وعبد العزيز بن دخيل وسليمان الشعيبي وآل جبر) وقصة إنشاء أول غرفة تجارية في الرياض، متذكراً أسماء بعض أعضائها الأوائل عبد العزيز المقيرن، عبد المحسن بن سويلم، عبد الله أبونيان، صالح الحميدان وغيرهم، وكيف انتشرت أعمال الصيرفة في الرياض التي بدأت مع المقيرن والتخيفي ثم سيطر عليها الراجحي، وأشكال العملات المستخدمة في نجد، وأن الصلات التجارية في الرياض كانت تتم مع الكويت والبحرين، ثم مع مدن الحجاز بعد توحيد البلاد، وكذلك صلات البريد، ومع أن مولده كان على الأرجح عام 1323هـ أو 1324هـ، فإنه يستطيع أن يتذكر حادثة ضم منطقة الأحساء ووقعة جراب 1333هـ ووقعة كنزان بعدها مباشرة والتي ذبح فيها بعض أعمامه من جهة والدته وهو لا ينسى بالتالي كل الحوادث التي جرت بعد ذلك. لم يكن غريباً أن تبقى ذكرياته القديمة محفورة في ذهنه رغم تقدمه في السن، فمن المعروف أن الذاكرة تحتفظ بالأقدم بشكل أوضح، ولذا فإن صورة الرياض بأسوارها وبواباتها (الدراويز) السبع كانت دائماً حاضرة في مخيلته، مسترجعاً بشكل خاص دروازة المريقب ودروازة المذبح، اللتين كانت أسرته تستخدمهما للخروج إلى مزارعها باتجاه الشميسي كما سبق، متذكراً أنهما كانتا – كبقية البوابات – تقفلان بعد صلاة العشاء، حيث لا يخرج عبـــــــرها أحد أو يدخل إلا بإذن. وكنت سألته عن الصحف، والشخصيات التي كانت تحرص على استيرادها، فذكر على سبيل المثال، باستثناء الأمراء وأعضاء الحكومة، أسماء ابن خضير والرويشد من بين أولئك الذين كانوا يتداولون قراءتها ويتناقلون أخبارها. إن الشيخ عبد العزيز الحقباني الذي تزوج سبع مرات وأنجب سبعة من الأبناء وعدداً من البنات، يمثل صورة نموذجية لجيل لم نعد نراه من رواد التجارة الأقدمين في العاصمة ( الرياض) شخصية تستوقف عارفيه في جملة من الأمور، لعل في مقدمتها العصامية والنزاهة واللباقة، لكنه إضافة إلى ذلك يلفت الأنظار بنظامه الغذائي الذي حافظ عليه، وقيامه بأموره بنفسه، منذ صغره، فهو لا يتعشى مطلقاً، ولعل ذلك ما يفسر سر تماسك قوامه وبنية جسمه، وهو يعتقد – بقناعة – بصحة المقولة التي يتمثل بها: (ما أهلك البرية ولا السباع في البرية كإدخال الطعام على الطعام).