إذا لم يكن عبدالله بن خميس أستاذَ فصل لبعضنا أو مديرَ معهد، كما هو الشأن لمن درس في معهد الأحساء العلمي، أو في كلية الشريعة واللغة العربية بالرياض في عهده، فإنه كان المدرسةَ كلَّها بالنسبة للجيل المخضرم من الإعلاميين والقراء والكتّاب. بالنسبة لي، لا أتذكر تاريخ البداية، لكنني عندما بدأت عملي الإعلامي عام 1963م، والشيخ حمد الجاسر في هجرته الإرادية في لبنان، كان الشيخ ابن خميس في مقدمة نخبة من أدباء العصر ومشايخه، نجدهم معنا يشدّون من أزرنا ويشجعوننا، يمدوننا بما نطلب منهم ويتجاوبون مع احتياجاتنا، وكانوا يرتادون مكاتبنا ونزور بيوتهم ومكاتبهم، لا نحس منهم كِبراً معنا ولا استصغاراً لنا، نلتقيهم متى نشاء، ويجدوننا متى كانوا يشاؤون.
كان الشيخ عبدالله بن خميس، والشيخ محمد بن جبير، والشيخ عبدالعزيز المسند، والشيخ عبدالله بن منيع، والشيخ عبدالله بن إدريس، والأستاذ محمد الفهد العيسى، والشيخ مناع القطّان، والأستاذ عبدالله العلي الزامل، من أكثر من تعاملنا معهم عند تأسيس الإذاعة والتليفزيون بالرياض، سواءً فيما يتصل بالرقابة والمشورة، أو بالإعداد والكتابة الإذاعية والتلفزيونية.
لم تكن علاقتي بأبي عبدالعزيز قوية في بداياتها، لكنها كانت على قدرٍ كافٍ من الودّ، أبلغني داره ومزرعته وعمّق صلتي بأولاده، ثم تحوّلت في العقود الأخيرة إلى درجة من الحميمية لا تكون إلا بين الأب وولده، حميميّة جرّأتني على التقاط صورة له مع ابنه عديّ حينما كان مسجّى في غرفة العناية الفائقة في مستشفى القوات المسلّحة في الأيام الأخيرة في حياته، تتغشّاه رحمة ربه التي شملت عباده، وما كنا نشكو بثّنا وحزننا وجزعنا على فراقه إلا إلى أرحم الراحمين. وبين عامي 1996 و 2002 م، جمعني بالشيخ مجلس إدارة مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر وجمعيتها العمومية، وكان قد تقدّمت به السن، لكنه لم يتخلّف عن اجتماع واحد، وكان في تسامحه وسَمته – وهو الأب الروحي للمؤسسة – يمثّل عنصر الهدوء والتوازن بين مختلف الاتجاهات، وبقيت عيناه وقلبه يرقب صرح الجزيرة حتى أضناه العجز، بل لقد كان الحاضن الأول لاستمرارها وحمايتها من أي صدع أو اختلاف، وكان بالطبع مرجعنا الذي نستقي منه الحكمة وعزم الأمور، وفي تلك الأثناء احتفلت مؤسسة الجزيرة بافتتاح مقرها الجديد برعاية سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض آنذاك ( مساء الثلاثاء 18 – 3 – 1997 م ) وفي ذلك الحفل التفت سموه مستفسراً عن اسم الحي فذكرت له أنه يُعرف بالياسمين، فقال: بل سندعوه ابتداءً من هذه الليلة حيّ الصحافة، لأنه يجمع مؤسسة اليمامة والجزيرة والدعوة، ثم صار يضم مقر هيئة الصحفيين والشركة الوطنية للتوزيع ومكتبة البابطين وغيرها، ومن أجل ذلك الحفل قامت الجزيرة بإعادة طبع عدد تذكاري من صحيفة الجزيرة في عهد مؤسسها الأول ابن خميس (1960 م) وعدد تذكاري ثان لأول عدد من صحيفة الجزيرة في عهد المؤسسات الصحفية (1963 م)، وقد أضفى الزميل د. إبراهيم التركي بإبداعه في تقديم الحفل ألقاً لفت أنظار حضور كبير غصّت به قاعات المؤسسة الجديدة، وكان من أهم الأحداث الإعلامية التي تزامنت مع تلك المناسبة دخول صحيفتي الجزيرة والمسائية عالم الإنترنت، مُسجّلتين بذلك الريادة الإلكترونية بين الصحف السعودية.
وفي تلك الأثناء أطلقت المؤسسة أيضاً اسم مؤسسها عبدالله بن خميس على مبنى المطابع تخليداً لجهوده في التأسيس، واسم سمو الأمير سلمان على قاعة المحاضرات، واسم عبدالله بن عبدالعزيز السديري على قاعة الاجتماعات تقديراً لدور الأخير في رئاسة مجلس الإدارة والجمعية العمومية لعقود عدة.
وجمعتني بالشيخ في سنة من السنوات، والجزيرة ما تزال في دارها القديمة بالناصرية، لجنة لتصحيح مسابقة الجزيرة لشهر رمضان المبارك، وكان يشاركنا تلك العملية الشيخ عبدالعزيز المسند واثنان من منسوبي المؤسسة.
كان الشيخ عبدالله ضمن قائمة مختارة من كبار السن من أعلام هذه البلاد وروّادها الذين سجلت معهم حلقات من ( شريط الذكريات) آخر برامجي التليفزيونية، وهو برنامج أذيعت بداياته ثم توقّف، وقد حوّلت بعضها إلى كتب ومن بينها حديثه رحمه الله، الذي تجلّى فيه حافظاً وراوياً وجغرافيّاً ومؤرّخاً، وتألّق فيه أديباً وشاعراً وكاتباً صحفيّاً، ومن طريف ما أذكر عند تفريغ الشريط أن أشكل علي مواضع ذكرها في طريق جريان وادي حنيفة، مما يلي وادي سدوس ووادي حريملاء، هي الخُمَر وأبا الهشم وبويضة، حيث لم أتبيّن بدقة لفظه لها، ولم أجدها فيما اطلعت عليه من المراجع، فاستعنت في عام 1429 هـ ( 2008 م ) بسكرتيره للبحث عنها في بعض كتبه الجغرافية، وقد كان الشيخ قد ظهر عليه العجز الصحي، وكم كانت المفاجأة سارة علي أن يأتي الرد بصوت الشيخ نفسه، في فرحةٍ جمعت لي بين توضيح المعلومة وتوقّد ذاكرته وقد وردت تلك الأسماء الثلاثة في الصفحة الخامسة عشرة من كتابي عنه. وكان ذلك الشريط قد عرض كاملاً في خميسية الشيخ حمد الجاسر عام2008م بحضوره وتعليقه، كما عرض في منتدى الدكتور عمر بامحسون الثقافي بمناسبة تكريمه عام 2010م وكانت تلك المناسبة مع تكريمه في الجنادرية عام 2011م آخر ظهور علني وتعليق صوتي له قبل اعتلال صحته، رحمه الله.
وبمناسبة الحديث عن التاريخ، لا بدّ من التذكير أن للشيخ باعاً طويلاً فيه لم يستكشف بعدُ، نجده مثلاً في كتابه معجم اليمامة، وفي مخطوطه المعنون: لمحات من تاريخ الملك عبدالعزيز كان أعده بمناسبة المئوية ولم ينشر بعدُ وكانت الأخت هيا السمهري قد تحدثت عن هذه المخطوطة في رسالتها في الماجستير – وإن عبدالله ابن خميس المؤرخ – جانب منسيّ كان ينبغي أن يخصص ملتقانا هذا حيّزاً عنه، يليق به.
إن من ينظر إلى معجم اليمامة (المكوّن من جزأين) الذي شارك فيه عبدالله بن خميس مع حمد الجاسر في مشروع المعجم الجغرافي للبلاد السعودية، سيجد أنه ممتلئ بالمعلومات التاريخية الخاصة بالمواقع والأشخاص والموضوعات المرتبطة بالإقليم، وهو ما جعل المعجم يستجيب لما يتطلب القارئ معرفته عن محيط المنطقة؛ جغرافيتها وتاريخها ومجتمعها، والواقع أن هذا المعجم الجغرافي – الذي اشترك في تأليفه نخبة من كبار علمائنا، وهم: الجاسر وابن خميس والعبودي والعمروي والجنيدل والعقيلي والزهراني وغيرهم – يضاف إليه ما كتبه الشيخ ابن خميس مما يخص الجزيرة العربية مثل: تاريخ اليمامة (في سبعة أجزاء) والمجاز بين اليمامة والحجاز ومعجم جبال الجزيرة (في خمسة أجزاء) ومعجم أودية الجزيرة (في جزأين) – جدير بأن تعقد لها ندوة مستقلة من قبل الدارة والنوادي الثقافية، لاستكشاف ما فيها من كنوز معرفية رصينة، جغرافية وتاريخية واقتصادية واجتماعية عن أقاليم هذه البلاد مجتمعة، وهي مراجع ثمينة يستعذب منها الباحثون اليوم بالقدر نفسه الذي يجدونه في معجم ما استعجم للبكري ومعجم البلدان للحموي وغيرهما، مع فوارق مهمة تُحتسب لمراجعنا، وهي إحاطتها باللهجات ووقوفها على المواقع، وأحسب أنه لو لم يخلّف ابن خميس سوى هذه المعاجم لكفى.
وبعد؛ نحن تلاميذهم، تجمعنا الأوقات مع هولاء الشوامخ، ونتسابق في حضور لقاءاتهم الثقافية، ثم يختفون عن الذاكرة بمجرّد أن يغيبوا عن المشهد الاجتماعي، والقامة ابن خميس هو كونٌ من الطاقات الفكرية والعلمية، لا يُختزل في الذكريات الشخصيّة معه، فهو علّامة شامخ وعلامة بارقة، لا تخفيها المسافات، ومعدن لا يصدأ مهما طال عليه الأمد، وحريّ بنا أن نسعى جادّين لإقامة معلم ثقافي يحمل اسمه ويستعيد تاريخه، ومركز يرعى وينشر تراثه الإبداعي.
* بمناسبة اللقاء العلمي عن عبدالله بن خميس بالرياض (يومي 26 – 27 – 2 – 2013 م) بالتعاون بين دارة الملك عبدالعزيز ونادي الرياض الأدبي