عبد الرحمن المنصور الزامل.. حياة بين هجرتين


هي المرة الثانية التي أتناول فيها قصة هذا الرجل، الذي هاجر ولم يرحل، وأكثر من التنقّل والأسفار، لكنه لم يغب، وإذا صادف أن يكون كاتب هذه السطور على صلة قرابة به، فإن قصته في الواقع، تمثل حكاية المئات من السعوديين، الذين هاجروا تحت ظروف اقتصادية وأمنية معينة، إلى الهند وبلاد الشام والعراق ومصر وبعض بلدان الخليج، ثم عادوا، وكانوا خلال هجرتهم في تواصل لا ينقطع مع مسقط رؤوسهم، في الحجاز والأحساء ونجد (وبخاصة في سدير والقصيم والزلفي) وغيرها من أنحاء السعودية، لكن أكثرهم عاد، بعد أن تحسنت الأحوال وتغيرت الظروف.

كانت الكتابة الأولى عنه بمناسبة تكريم أهالي مدينة عنيزة ( ثاني اكبر مدن منطقة القصيم في نجد) له في مركز ابن صالح الثقافي عشية السبت 1421/8/1 هـ، واحسب أن القارئ لن يملّ قراءة سيرة هؤلاء الرجال، فضلا عن أن تأتي الكتابة تعبيرا عن مشاعرهم ومكنوناتهم عنهم، أو أن يركّز الوصف على الظاهرة وعلى الأشخاص النماذج لهذه الظاهرة.

والكتابة عن الشيخ الزامل، الذي يُعدّ اليوم عميد أسرته بفروعها، وكان يتخذ من المملكة والكويت مقرا مزدوجا لإقامته، لا بد أن تُقرأ من زوايا عدة، تشبه إلى حد كبير سيرة أمثاله من النجديين المقيمين في الكويت وجنوب العراق:

أولها: هجرته الأولى في نهاية الأربعينات من القرن الهجري الفائت من مسقط رأسه (عنيزة) إلى البحرين، أولا، بحثا عن أفق أرحب في طلب الرزق، وحبا في المغامرة وركوب التحديات ومواجهة الصعوبات، شأنه في ذلك، بأسلوب مختلف، شأن عدد من تجار منطقته (العقيلات) الذين اشتهروا بتعاملاتهم مع البلدان المجاورة شمالا وغربا، في ظاهرة يؤرخ لها بقرنين من الزمان (1150 ـ 1350 هـ) ونسجت حولها قصص واقعية وأساطير تصلح لمسلسلات تلفزيونية شيقة.

لقد كان الشيخ الزامل من فئة من أقرانه، الذين فضلوا التوجه شرقا عبر البحر إلى الهند والبحرين أو بلدان الخليج الأخرى، لدرجة أن كثيرين من أهل نجد استقروا هناك وأسّسوا دورا تجارية وأسرا ومضافات للزائرين السعوديين والعابرين، بقي بعضها حتى اليوم، لكنهم ظلوا محافظين على ثقافتهم ولغتهم ولهجاتهم، وعلى علاقاتهم بأوطانهم الأصلية.

أما الزاوية الثانية، فهي أن الشيخ الزامل، الذي تجاوز العقد التاسع من عمره، يُعد احد شهود العصر على مرحلة مهمة من تاريخ المنطقة، خاصة انه كان يحتل موقعا اجتماعيا يسمح له بالرواية ويمنحه الصدقية، ويجعل أحكامه ُتؤخذ بالقبول والتسليم بما تختزنه ذاكرته من معلومات وذكريات، ومن حسن الحظ، انه خص كاتب هذه السطور بحديث تلفزيوني شامل، عن سيرة حياته ومراحل تطورها، في توثيق قد يفيد الباحثين والمهتمين بدراسة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لمنطقة الخليج، كما أفاد ليلة تكريمه قبل أعوام.

الشيخ الزامل ـ بحكم طفولته التي أمضاها في عنيزة ـ وشبابه الذي قضى شطرا منه في البحرين، قبل أن ينتقل منها للاستقرار في الكويت، وكهولته التي عادت به جزئيا ـ في هجرة العودة ـ إلى الرياض وعنيزة، هو في الواقع، شاهد حال واثبات، على التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة التي شهدتها مجتمعات المملكة والكويت والبحرين في فترة التوحيد والاستقلال والاستقرار وتدفق النفط، وتحرك عجلة التنمية والتغيرات السكانية، التي لا تفيها الانطباعات الشخصية حقها من الوصف والتصوير.

ولقد استعرت عنوان هذا المقال (بين هجرتين) من عنوان كتاب متسلسل الأجزاء، ألّفه عبد الرزاق الصانع وعبد العزيز العلي ـ بدعم من الشيخ عبد العزيز البابطين ـ عن إمارة الزبير، بجنوب العراق، التي استقبلت آلاف النجديين في القرنين الماضيين، ثم عادوا إلى وطنهم خلال العقود الماضية، وبخاصة بعد أن ساءت أحوال العراق نتيجة تعاقب الثورات، في مقابل ما تشهده المملكة من أمان وازدهار.

الشيخ عبد الرحمن المنصور الزامل، مثل كثير من رجال الأعمال ووجهاء المجتمع من جيله، كان قد عاصر الكتاتيب، ثم قيام أول مدرسة حديثة أهلية، أنشأها أستاذ الجيل المرحوم صالح بن ناصر الصالح، وهو الأخ الكبير للشيخ عثمان الصالح شفاه الله، وليرتقي بها سنة 1348هـ (1929م) عن أساليب الكتاتيب المعروفة في عنيزة آنذاك، يعاونه في ذلك شقيقه الراحل عبد المحسن الذي لا يقل عنه انفتاحا وسعة مدارك*.

قام الشقيقان بتطبيق بعض ما تعلماه في مدرسة (النجاة) الشهيرة في الزبير، وهي المدرسة التي أسسها الشيخ محمد أمين الشنقيطي عام 1338هـ، وكان اذ ذاك يتنقل بين عنيزة والزبير والكويت، وقد تركت هذه المدرسة أثرا تنويريا مهما في منطقة الخليج كافة.

وكان الأستاذ صالح (وشقيقه عبد المحسن) قد استقرا في عنيزة قرب اخوالهما، ليشكلا فيها توأمة عاطفية مع مدينتهما الأصلية (المجمعة، كبرى مدن إقليم سدير في نجد) وكان من تأثيره أن أقام له تلاميذه ومحبوه مركزا ثقافيا باسمه، وجمعية خيرية تسعى لتحقيق الأهداف التي طالما نذر نفسه لإنجازها، وهي الجمعية الخيرية الصالحية ومركز ابن صالح الثقافي بعنيزة. وفي حدود عام 1349هـ (1930م) امتطى الشيخ الزامل الرواحل (الجمال) في رحلة مهلكة اجتازت نفود الدهناء إلى الاحساء شرق السعودية، ومنها عبر شاحنة يركبها لاول مرة في حياته إلى (العقير) على ساحل الخليج، لتنقله سفينة شراعية ـ ولأول مرة في حياته أيضا ـ الى البحرين. أما عن سبب اختيار البحرين وجهة لهجرته الاولى، فلأن اثنين من وجهاء اسرته، وهما عبد الله الحمد الزامل، وحمد السليمان الروق (الزامل)، كانا يقيمان شراكة تجارية معروفة، وقد شجعاه على الرحيل من عنيزة ليجرب حظه في التجارة بعد ان تبين ان حبل الود بينه وبين مدرسته يكاد يكون مقطوعا.

جدير ذكره أن عبد الله الحمد الزامل، هو والد الإخوة الاثني عشر محمد ود. عبد الرحمن (عضو مجلس الشورى) وحمد وعبد العزيز (وزير الصناعة السعودي السابق) وزامل واحمد وسليمان وخالد وفهد وأديب ووليد وتوفيق، أصحاب مجموعة شركات الزامل التجارية والصناعية الشهيرة، وكان والدهم شخصية تجارية فذة لم يتطرق احد بعد إلى توثيق سيرته، باستثناء ما ذكره المهندس عبد العزيز في مقابلته المسلسلة في صحيفة «عكاظ» السعودية.

وفي المنامة عمل فترة مع قريبه (الزامل والروق)، ثم رغب في الاستقلال والاعتماد على النفس، فالتحق بإحدى ابرز دور التجارة البحرينية (شركة يوسف كانو) التي منحته مزيدا من الثقة واستأمنته على مستودعاتها مدة تقارب أربعة عشر عاما، وهي مدة مكنته من معرفة دهاليز التجارة والصلات مع الهند، والتبادل مع بلدان الخليج الأخرى، وبخاصة دبي والشارقة اللتين قصدهما في سنة 1351هـ (1932م) في أول رحلة جوية له، رفقة رئيسه (معزّبه: يوسف كانو) ظل يتذكرها طيلة حياته.

كما يتذكر الشيخ الزامل ظروف نشوب الحرب العالمية الثانية، وآثارها العسكرية والاقتصادية على المنطقة، منطقة النفوذ البريطاني (والعثماني سابقا)، حيث كان من تعاملات (كانو) ما له علاقة بالتجهيزات والتموين العسكري.

ولأن الشيخ الزامل من مواليد سنة 1332هـ (1913م)، فإنه كان يعي كثيرا مما مر على نجد من حوادث، كان من أبرزها (وقعة السبلة 1347هـ) التي وقعت وعمره، 15عاما، وكانت تعد مفصلا حاسما في استقرار هذا الوطن ووحدته.

اما الزاوية الثالثة: فهي أن الشيخ الزامل، يشاركه رفيق دربه التجاري والاجتماعي: صالح العبد الرحمن العبدلي رحمه الله، فقد اختارا الانتقال الى الكويت والاستقرار فيها، حيث كوّنا بيتا تجاريا مشهورا دام نصف قرن، يعد نموذجا متميزا في الثقة، والوفاء للوطن الأصل، حيث لا يكاد يمر عام واحد إلا ويقوم احدهما بزيارة عنيزة ويقيم فيها ـ بالتناوب ـ اقامة لا تكفيها الايام القليلة، كما ُينظر اليهما في الكويت كسفيرين للمجتمع السعودي، وذلك لتمسكهما بعاداتهما وتقاليدهما، وجمع السعوديين الزائرين في ضيافتهما وديوانيتهما. فاذا ما ارتحلا صيفا او في الاعياد الى الوطن، فإنهما يجلبان معهما شيئا من مظاهر المعيشة في الكويت، حتى عُدا محسوبين على المجتمعين معا بدرجة متساوية، والوفاء لوطنهما لا يكون بالزيارة او قضاء الاجازة، وانما بالمعايشة الحقة لكل احوال المملكة، والتفاعل مع حلوها ومرها ومناسباتها الوطنية والاجتماعية، والاسهام البليغ بكل ما يلزم القيام به من واجبات. ومن صور وفائهما، استثماراتهما الواسعة، وبخاصة في حقل الزراعة، حيث أسسا مزارع تعد من أفضل بساتين مدينة عنيزة وأجودها في الإنتاج (الغزيلية والمنصورية ودمشية)

وبعد: انها الصورة ذات الابعاد الثلاثة لاحد ابرز رموز الاقتصاد السعودي/الكويتي، الذي صاغته بيئة خرجت العشرات من امثاله، ممن ظلوا اوفياء لاوطانهم، نزيهين في تعاملاتهم، ومضرب مثل في نقاء صلاتهم وشركاتهم، والبذل والعطاء داخل مجتمعاتهم، والاخلاص والولاء لبلدانهم، والحفاظ على قيمهم. انه المهاجر الذي لم يرحل، فهو مسافر زاده الوفاء: عبد الرحمن المنصور الزامل، أجزل الله له الأجر والثواب.

*إعلامي سعودي وعضو مجلس الشورى