(كثر الله خير) أسرة حمد الجاسر، فلقد شاركتها صحيفة اليمامة ومجلة العرب معيشتها ورزقها عند تأسيسها عامي 1372هـ و1386هـ (على التوالي)، وكلنا نعرف أن حال هذه الأسرة، لم تكن باليُسر الذي يسمح لها بمواجهة تكاليف مثل هذين الاصدارين في ذلك التاريخين.
وعندما نقارن بين الاصدارين – اللذين فصلت بينهما خمسة عشر عاماً – فإن ولادة مجلة (العرب) كأنه – وفق تقديري وبكل المقاييس – أكثر عُسراً وكلفة، فلقد هبّت سواعد أحبابه وزملائه وطلابه لمؤازرته، وكان في طليعتهم:
عبدالله بن خميس ومحب الدين الخطيب، وعبدالله عريف وعبدالرحمن بن سليمان آل الشيخ وعبدالرحمن أبا الخيل وابراهيم العنقري وناصر المنقور وعبدالكريم الجهيمان وسعد البواردي وعمران بن محمد العمران وخير الدين الزركلي وغيرهم كثيرون، هذا فضلا عن المساندة المعنوية التي تلقاها من المسؤولين المحبين له في الديوان الملكي وإمارة منطقة الرياض، ومع ذلك، فإن المرء يكاد يجزم بأن مجلة (اليمامة) قد أكلت مع أسرته الصغيرة وشربت، ونافستها على وقته واهتماماته، والكلام نفسه يقال عند تأسيس مطابع الرياض.
أما بالنسبة لدار اليمامة للبحث والترجمة والنشر ومولودتها مجلة (العرب)، فلقد كان الحَمْل بهما صعباً، وظروفه قاسية، النفسية والمادية والأسرية.
فلقد كان الشيخ الجاسر رحمه الله حينها في هجرة (اختيارية – قسرية، بدأت بالقاهرة وانتهت ببيروت)، وكان الله هو الأعلم بحالته المادية خلالها مهما كانت موارده المحتملة حينها، فلقد استمرت تلك الغربة من عام 1383هـ إلى عام 1395هـ (1962م-1975م)، أي قرابة نحو (13) عاماً.
وكانوا، عندما عاد من تلك الغربة مع زوجه وأسرته الصغيرة، مكلومين بفقد ابنهم الأكبر محمد (1395هـ-1975م) ومحروقي الأفئدة باحتراق مكتبته الخاصة التي بناها كتاباً كتاباً، ونقلها معه من مكان إلى مكان، إذ كانت قد احترقت في العام نفسه.
وكان طيلة إقامته في مصر ثم لبنان، مجروحاً متألماً من سحب امتياز صحيفة (اليمامة)، ومنحه لآخر، لم تكن تربطه بها أي صلة قربى أو نسب أو حتى رضاعة.
من هنا وُلدت دار اليمامة وابنتها مجلة (العرب) في ظروف صعبة لازمته معظم سني حياته، على نحو يذكّر إلى حد كبير بظروف طفولته التعيسة هو في نواحي بلدة البرود، وقد بلغ من قسوة تلك الظروف، أن كادت المجلة تحتضر عدة مرات، لكن عزة نفسه وكرامته وإباءه لم تسمح له بالاعتراف بما آلت إليه، ولا ننسى أن مجرد التفكير بتأسيس مجلة متخصصة في مثل موضوعها التراثي ما يزال يُعدّ انتحاراً في هذا الزمن، فما بالك بإصدارها قبل أربعين عاماً، وهو موضوع لا يجتذب المعلنين، ولا يستهوي غالبية القراء.
استمرت حال مجلة العرب تعاني – على هذا النحو من الصراع من أجل البقاء – من ظروف مالية وطباعية صعبة طيلة العقود الأربعة الماضية، لدرجة أوحت لمجلس إدارة مؤسسة الجزيرة الصحفية أن يعرض على الشيخ الجاسر رحمه الله، بمناسبة افتتاح مبناها الجديد (ذو القعدة 1417هـ – مارس/ آذار 1997م) شرف طباعة مجلة (العرب) في مطابع الجزيرة، فكان ما كان من توجيهه رسالة معبرة أعرب فيها عن امتنانه لهذه اللفتة الإعلامية الودية، ومخاطبته للحفل بكلمة ألقاها الأستاذ الزميل حمد القاضي نيابة عنه، يعتذر فيها عن عدم تمكنه من الحضور لحالته الصحية، وكان الحفل برعاية سمو أمير منطقة الرياض سلمان بن عبدالعزيز وحضور نائبه سمو الأمير سطام بن عبدالعزيز.
وبعد: إن الاحتفال بمناسبة مرور أربعين عاماً على صدور مجلة (العرب)، سيكون بمشيئة الله، إيذاناً بانتهاء مرحلة المعاناة والشقاء لهذه المجلة الأثيرة على قلب صاحبها، والعزيزة على نفوسنا جميعاً.
لقد بلغت مجلة (العرب) من العمر أشُدّه، واجتازت كل الصعوبات والعقبات، وفرضت نفسها مجلة عربية متخصصة بالتراث وبتاريخ الجزيرة العربية وجغرافيتها، ومرجعاً علمياً موثوقاً جمع نفائس بحوث الشيخ الجاسر وملخصاتها، وشيئاً من ذكرياته وخواطره، والمرجو أن تمثل هذه المناسبة مرحلة التطوير نحو الأفضل والانتقال مع التقنية الحديثة لأن تبقى وفيّة لآمال مؤسسها وطموحاته ومقاصده العلمية.
ولنا في همة تلامذته الذين تولوا أمرها من بعده: د. أحمد الضبيب، ود. عبدالعزيز المانع، ود. عبدالله العثيمين، ود. عبدالعزيز الهلابي، الثقة والأمل الكبير