مضى على ظهور الملك عبد العزيز قرنُ ونيّف، ولسنا هنا بحاجة إلى الرّياء في استعادة سجله، فلقد ذهب إلى بارئه، وشهد له المنصفون بما يستحق، لكننا، في المملكة العربية السعودية، وكلما شاهدنا أوضاع بعض إخوتنا العرب نتذكر تاريخه ونترحم عليه.
فهذا ما يجري في العراق وفلسطين ولبنان والسودان والصومال، وما تمر به شعوبها من مآسٍ، بعضها من فعل الآخرين، وأكثرها من فعل أبنائها وزعاماتها التي فتحت المجال للأبعدين أن يتطاولوا عليها، ويتجرأوا على العبث بأمنها ومقدراتها، واغتيال آمالها، وسلب إرادتها، وشنق حريتها، واختطاف هويتها الوطنية.
العراق مثلاً، خرج منه العثمانيون قبل نحو قرن أيضاً (1916م) وتركوه متأخراً كما فعلوا من قبل مع الحجاز وبلاد الشام، ثم رزئ باستعمار بريطاني، سلب خيراته، وسخر أرضه لخدمة مصالحه وتأمين طرقه، وفرض على البلاد زعامة من غير أهلها وإن كانت عربية، وكأنّ بغداد المجد والعزة والكرامة خلوٌ من الرجال والأسر التي تتفق الكلمة على عقد الإجماع لها.
ومرّ العراق العزيز، بالكثير من القلاقل والانقلابات بدءاً من ثورة العشرين، ورشيد عالي الكيلاني، ومروراً بحركات البعث، لكنها جميعها لم توفر راحة البال للبلاد، ولم تضعها في مرتبة تناسب تاريخها العظيم، فتسلّط عليه من أبنائه قبل الغزاة من نغّص على الناس حياتهم، حتى انتهى به الحال إلى ما نراه اليوم من طائفية وتفكك وهجرة عقول، وتقطع أوصال واحتلال.
عاد العراق عقوداً إلى الوراء، حتى صار أهله يترحمون على عهد الاستعمار، وباعه المنتفعون إلى من جعله مسرحاً لتصفية الحسابات وتفريخ الإرهاب.
لا نقصد الشماتة بالجار العزيز وأهله الأشقاء، لكننا عندما نستذكر اليوم قرناً مضى من تاريخ العراق منذ أن غادره العثمانيون، وقرناً آخر مثله من تاريخ هذه الجزيرة العربية، منذ أن أجبر الأتراك على ترك الحجاز والأحساء وعسير، نجد مفارقة واحدة، نقصد منها قراءة التاريخ والاستفادة من عبره ودروسه، وهي الفرق في الزعامة..
العراق، بالنسبة لهذه البلاد بخاصة، يمثل – عبر التاريخ – العمق والامتداد الجغرافي والبشري والاقتصادي،، فلقد كانت مناطق الحدود معه مشاعة، والعشائر تنتقل بحرية، والبادية تتبع مرابع أنعامها حيث تجدها في صحراء البلدين، وكانت قبائل الشمال وأسر الأحساء ونجد تهاجر من بلدانها لتتخذ من نواحي العراق موطناً لها، تطلب العلم والرزق والحياة العصرية النسبية دون أن تنقطع بأصولها، فكانت مدن العراق الموطن الثاني لكثير من أهلنا، تعايش همومه، وتتأثر بأوضاعه، وتحزن لآلامه، وتقلق على مستقبله، وتهتم بأخباره، وتفاخر معه بتاريخه، ولا تنفك تجري المقارنات مع حضارته، وتستمد كثيراً من صورها الذهنية من ماضيه، حتى لنكاد نجزم اليوم – دون مزايدة – أن لا أحد من جيران العراق يضع يديه على قلبه خشية على أهل العراق – من دون مصلحة – مثلما يفعل مواطنو هذه البلاد.
من هنا، فالهدف من المقارنة، هو تشخيص حال العراق من زاوية الزعامات التي مني بها وتولت قيادته عبر القرن الماضي، وكذا التمني على الله أن يخرج له من أهله من يوحد أهدافه، ويقودهم نحو الأمن والاستقرار.
ومن هنا أيضاً، تبرز أهمية المقارنة في الفرق بين الزعامات، بين زعامة تكون نكبة على أوطانها وشعوبها، وأخرى يجري الله على يديها الطمأنينة والمنعة، وتكون سبب العزة والقوة لبلدانها، حتى وإن مضت عقود على رحيلها.
إننا، ونحن نستمطر رحمة الله أن تنزل على أرض العراق وشعبه الغالي، نستذكر كم كانت هذه الجزيرة العربية، وبخاصة المملكة العربية السعودية، محظوظة قبل قرن أن سخر الله لها قائداً من أهلها، اجتمعت فيه عبقرية الزعامة، ووضوح الرؤية، ونضوج الفكرة والهدف، وقوة الشخصية والإرادة والحنكة السياسية الفطرية، والنية الصادقة، والعقيدة القوية.
زعامة، وضعت الحلم حيث تكون المصلحة في وضعه، وبذلت بسخاء حين كان البذل ينفع في تأليف القلوب وتصافيها، بينما كانت لا تتردد في حمل السيف، حيث تتحتم مقارعة الأشرار، كل ذلك دون أن يكون لها حظ من تعليم عسكري أو سياسي حديث.
إنك، أينما قرأت في تاريخ عبد العزيز آل سعود السياسي، ستكتشف كيف كان ذلك الزعيم متقدماً في جيله، موهوباً في بصيرته، استطاع أن يقود سفينة بلده بعيداً عن المخاطر والأزمات، وأن يحيّد وطنه، ويعزل أعداءه، وأن يخرج من شتات نجد وحاضرة الحجاز، وطوائف المذهب، وقبائل تهامة وعسير، قطراً عربياً، متراصاً، مترابطاً، متكاملاً قلَّ أن تجد لوحدته مثيلاً في أقطار عربية أخرى.
إنه الفرق، تصنعه زعامة تاريخية نادرة يتمنى المرء لو استنسخت وعممت في أقطار هي بحاجة إلى مثلها، ترى كيف سيكون حال بلاد الرافدين لو سخر الله لها زعيماً وطنياً قوياً يتوافق عليه شعبه العظيم؟