لم يكن مرور أسبوع على فاجعة «جامع القديح» بكافٍ لأن تهدأ فيه الخواطر، فالوفود لا تزال تتوالى من أرجاء السعودية لتكشف عن مكنوناتها من الحب والتضامن، وعن التأكيد على وحدة الدم والمشاعر، وعلى أن الولاء للوطن فوق كل اعتبار ومصير.
و«القديح» القرية الوادعة في حاضرة القطيف، ومن قبلها «الدالوة» البلدة الحالمة في حاضرة الأحساء التي فُجعت هي الأخرى بحادث مماثل في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وكلتاهما في شرق السعودية المطلّ على الخليج العربي، شهدتا اختبارين يحملان في طيّاتهما معاني لم تكن تقلّ في المغزى والمدلولات عما نتج عنهما من قتل نفوس المصلّين والأبرياء.
ما يجمع بين الجريمتين الإرهابيّتين المؤسفتين أنهما لم تكونا معزولتين؛ وقعتا في حواضر ذات كثافة شيعية، وقام بهما شبّان من السنّة لا يُمثّلون إلا أنفسًا تلوّثت عقولها بالفكر المذهبي المختلّ في تنظيم خارجي، بعد عقدين من حوادث متكررة اكتوت بها أنحاء سنيّة متفرقة من البلاد نفَّذها تنظيم آخر في طريقه إلى الاضمحلال.
وجمع بين الحادثتين وما سبقهما من حوادث الإرهاب المذكورة نجاح لافت للنظر من المباحث السعودية بُعيد ساعات قليلة، لكشف المتسبّبين والضالعين والمحرّضين فيها، وهو نجاح يُسهم في تخفيف الاحتقان المصاحب عادةً لمثل هذه الجرائم، التي لا تُقيّد في عرف وزارة الداخلية ضد مجهول. والحادثتان بقدر ما أثارتا من عاطفة الأسى والحزن، أيقظتا مكنونًا متأصّلاً من عميق الإيمان الوطني الذي شكّل «صفعةً» غير متوقعة لمن خطّط ونفّذ وراهن على تأثيرهما.
لكن حادثتي الدالوة والقديح أفرزتا توافقًا جماهيريًا على وجود «فجوات تنظيمية» يؤكّد سدّها الصريح على «لجم» النعرات الطائفية والمذهبية والإقليمية والقبلية الكريهة التي تعيث بين الشعوب العربية والإسلامية، وتعصف بمكوّنات الوحدة والترابط في داخلها وبينها، تقنين يسير بموازاة الحزم الأمني الراسخ الذي نجحت فيه المملكة العربية السعودية في داخلها وعلى ضفاف حدودها الجنوبية والشمالية، يشعر العقلاء بأن الجبهة الداخلية هي اليوم أحوج ما تكون إلى عاصفة من التقنين الحازم الموجّه لأئمة المساجد ومنابر الخطابة والإعلام ولمن يتسيّد الفضائيّات ووسائل التواصل الاجتماعي، ولنبذ عفن الفرقة ولغة الفتنة الطائفية.. تقنين مدروس في مشروع وطني يأخذ في الاعتبار ما تضمّنته أنظمة النشر والتوعية والإعلام والمنظومة القضائية، لضبط انفلات حرية الكلمة الرصاصة، المقروءة والمسموعة والمرئيّة، فلقد طفح الكيل وسيء استخدام الانفتاح، وصار المنصفون يتطلّعون إلى جهد من الحكومة يوازي ما تقوم به من عمل مُقدَّر لضبط الأمن وكبح جماح الإرهاب.
لقد كان أجمل ما رَآه المواسون في سرادقات العزاء في ضاحية القديح عبر أسبوع العزاء، أن أهل المصابين هم أول من استبشر بشهادة ذويهم في سبيل الوطن، وأن المكان لم يكن تجمّعًا للمزايدة على الولاء والفداء، كان الشعور المفعم بالحب والتضحية صاحب القول الفصل والدرس الأبلغ في التلاحم الوطني في تلك السرادقات.