ما لا يخطر على البال من التراث والسياسة والاجتماع في مذكرات سعودية


يقدر لإبراهيم الحسون الذي دلف إلى عالم التأليف، وهو ما يزال بكامل صحته وتوقد ذاكرته، حرصه ومتابعته لإصدار خواطره وذكرياته في ثلاثة مجلدات قبل أيام، بعد رحلة شاقة من الجمع والتحرير والتوثيق والطبع، مع الرقابة التي كانت تجتهد لحذف بعض فقراتها، اشفاقاً على مؤلفها، وحرصاً على سلامته من الاعتراضات على بعض مضامينها. والواقع انه ما كان لهذه الذكريات، التي تميزت بالشمولية، من السياسة إلى التاريخ، ومن التراث إلى الأشخاص، أن تظهر للقراء على هذا النحو من جودة الطباعة، والحفاظ على القدر الأكبر من محتواها ومادتها الأصلية، ومن شمولية التوزيع والانتشار المرتقبين لها، لولا أن صاحبها هو الذي ظل وراءها، يجري ويعقب ويتابع ويتأكد بنفسه، كي تحق وتبلغ المقاصد، من وراء تدوينها. والشيخ إبراهيم بن محمد الحسون، وقبل الدخول في استعراض كتابه الذي يقع بأجزائه الثلاثة من 1330 صفحة، من تقديم الدكتور عبد العزيز الخويطر، هو من مواليد عنيزة حوالي عام 1915. بدأ يتلقى علومه الاولية في كتاتيب مدينته، ثم التحق بالمدرسة الرشدية بجدة، التي أسسها الأتراك في الحجاز والأحساء قبل انحسار حكمهم. وعاش فترة دخول الحجاز في الحكم السعودي 1924، ثم انتقل إلى مدرسة الفلاح الأهلية التي أسسها الشيخ الراحل محمد بن علي زينل في جدة، وهو لما يزال مهاجرا في الهند، فنال الحسون الثانوية منها سنة 1933، ومع انه التحق بمدرسة تحضير البعثات التي كانت تعد طلابها للدراسة في الخارج، إلا انه درس عاماً واحداً، ولم يحظ بفرصة الابتعاث.
لكنه عمل لفترة قصيرة سكرتيراً لقائم مقام جدة (إبراهيم بن معمر)، وعمل في جمرك الخبر سنة 1937 وصار مديراً لجمرك (أم رضمه) على الحدود مع العراق، فمشاركا لجمارك الحدود، ثم اميناً للجمارك في (قرية)، متنقلاً في عدد من وظائف الجمارك حتى عام 1958 إلى أن عين رئيساً لمالية عرعر وجمركها حتى عام 1978، حين تقاعد بعد خدمة تربو على أربعين عاما، وأقام في جدة، على صلة بمدينة عرعر حيث تقيم ابنته. احتوى كتابه، بأجزائه الثلاثة، نحو 2500 مفردة (عنوانا) تضمنت كل ما لا يخطر على البال من موضوعات خاصة وعامة، تبدأ من ولادته وحتى نهاية علاقته بالوظيفة، وعلى معلومات لا غنى عنها لأي باحث في التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري للوطن، مما يتطلب استعراضه عدة حلقات. على أن الحديث عن تجربته الثرية في مجال الجمارك في مواقع مختلفة من السعودية، بالإضافة إلى سيرة حياته، خططا بشكل ملحوظ بمفردات كثيرة من محتويات هذه المذكرات، وهو أمر متوقع من رجل عاش هذه التجربة الطويلة، ولا بد انه كان يرصد مع مرور الأيام، كل ما يمر عليه، وإلا لما كان في مقدوره أن يسجل كل هذا الحجم الهائل من التفاصيل وعلى هذا النحو من الدقة.

فهو يبدأ كتابه بالتعريف بنفسه وأسرته، مما يعد مدخلاً طبيعياً لذكرياته، ثم يقدم وصفاً دقيقاً للبيئة التي نشأ فيها (مدينة عنيزة) راسماً صورة ذهنية مقروءة كاملة التفاصيل عن أسواقها ومزارعها وحياة أهلها وأساليب معيشتهم وأزيائهم وعاداتهم، وأنواع مأكولاتهم ومشروباتهم وروابطهم الاجتماعية، ثم يعرج على وصف الحالة الثقافية، ويذكر بالمعلمين والكتاتيب القائمة في عنيزة في فترة طفولته في الأربعينات الهجرية من القرن الماضي (العشرينات الميلادية). ثم يستعرض التاريخ السياسي لمنطقة القصيم، متنقلاً من موضوع إلى آخر بدون رابط منطقي احياناً، لكن القارئ لا يشعر بالتنافر أو الضيق عند قراءتها، مما جعلها سلسلة مشوقة بتنوع موضوعاتها، تخضع لمنهجية التسلسل الزمني وهو احد أسباب بساطتها وجاذبيتها. ثم تتوجه ذكرياته وخواطره لسرد تفاصيل انتقاله لأول مرة من القصيم إلى الحجاز، واصفاً وسائل السفر والمحطات التي مرت بها حملته، على ظهور الإبل، إلى أن بلغ مقصده في العمرة والحج، مع رواية بعض الحوادث التاريخية ثم تعود به الذكريات إلى تفاصيل الظروف الحياتية في مجتمع الحجاز آنذاك (نظام البناء، سقيا المنازل، النقود، عادات الزواج، وبدء جلب السيارات) من منظور طفل نجدي نازح إلى مكه المكرمة يرى هذه الظواهر المدنية لأول مرة. ثم يكشف المؤلف مشاعره وهو يعود إلى مدينته عنيزة بعد أول غيبة عنها، متحدثاً هذه المرة عن أميرها وقاضيها ومشائخها، مع التطرق مرة أخرى إلى أسلوب الحياة فيها والسمات الشخصية لأهاليها. وبعد أن يعود إلى الحجاز مرة أخرى في مطلع الخمسينات الهجرية، بعد أن تفتّح ذهنه أكثر فأكثر، تأتي ذكرياته على ما طرأ على المجتمع الحجازي من تطور في ظل المتغيرات السياسة والاقتصادية والاجتماعية الجديدة، مثل الراديو والجراموفون (لتشغيل الاسطوانات) وتأسيس الشركات، مع استعراض شخصيات جدة وأعيانها، والمكتبات، والصحف المستوردة، وتقديم معلومات عن مدرسة تحضير البعثات التي التحق بها، مورداً تشخيصاً جديداً للحياة الاجتماعية في مكة المكرمة بكل تفاصيلها. ومن بين القصص والروايات التي تطرق إليها الكتاب، بتفصيل مقبول قصة الطبيب الروسي الذي كان يعمل في القنصلية الروسية بجدة ثم لجأ إلى المملكة وافتتح عيادة في مكه المكرمة واستوطن فيها حتى وفاته. ويدخل الحسون إلى الجزء الثاني من كتابه، مبتدئاً بسرد وقائع رحلته الأولى إلى المنطقة الشرقية من المملكة (الدمام والخبر والطهران وراس تنورة)، وتفاصيل لقائه بالملك عبد العزيز وولي عهده الأمير سعود، قبيل انطلاق رحلته، ماراً بمركز رماح ـ مفتاح الطريق آنذاك إلى الأحساء، واصفاً معاناة المسافرين عبر الدهناء، ومسترسلاً في ذكر أصدقائه مديري المالية والجمارك في الدمام والخبر عند تسلمه عمله هناك، كما يورد مرة أخرى تفاصيل وافية عن الحياة في مجتمع مدن المنطقة الشرقية أبان إقامته هناك.

وربما تكون ذكريات الحسون هذه أفضل، وربما أول، مرجع يأتي على وصف أوجه الحياة في الجزء الشمالي الشرقي (حفر الباطن، أم رضمه، لينه، قرية) وعن ظروف التنقل بين السعودية والكويت، وأساليب جباية الزكوات، مع تعداد أسماء أمراء تلك المراكز من أمثال: محمد الشهيل، وصالح العبد الواحد. ثم يعود مرة أخرى إلى السياسة، شارحاً الظروف المحيطة بقيام الحرب العالمية الثانية، مسترجعاً ما سبقها من قصص تتصل بأفول الدولة العثمانية واقتسام تركتها، وكذا قصة إنشاء الخط الحديدي الحجازي بين اسطنبول والمدينة المنورة، وظهور هتلر وهزيمته، وبدء الإذاعات، في تسلسل استغرق نحو 100 صفحة، يعود إليها مرة أخرى ليركز على الأوضاع السياسية في العراق والأردن وفلسطين ومعركتها عام 1948. ويستذكر الحسون عدداً من أصدقائه، ويسرد ذكريات رحلتيه إلى الكويت وزواجه الثاني، وأول رحلة جوية له، مضيفاً بعض الصور في ختام كل جزء من الأجزاء الثلاثة من ذكرياته الواسعة. وكان من بين ما تضمن المجلد الثالث من موضوعات، رحلته إلى القاهرة عام 1950 وتصوير كل ما يواجهه زائرها لأول مرة عادة، مع التعريج على شيء من تاريخها وأوضاعها وهي على أبواب التحول من العهد الملكي إلى العهد الجمهوري، ثم يصف زيارته إلى لبنان، ويأتي على ذكر أصدقائه السعوديين المقيمين في مصر وبلاد الشام، والمهم انه في كل ما يروي، وبالرغم مما يبدو ذا طبيعة خاصة احياناً، فانه مليء بالمعلومات التي تفيد الباحث المعني بموضوعاته، كما قد يحلق في أجواء التاريخ عندما تحين له فرصة لذلك، فهو، كما زار مصر واسترجع تاريخها، عندما سافر إلى لبنان تطرق إلى تركيبته الطائفية، وعندما سمع بنبأ وفاة الملك عبد العزيز استعاد شيئاً من سيرته وهكذا.

وذكريات الحسون هذه تأتي على ذكر العشرات من الشخصيات والإعلام السعوديين وقصصه معهم من أمثال ابن سليمان والقصيمي وعبد المحسن المنقور والجفالي وعبد العزيز العبدلي وسليمان الغنيم، وعبد العزيز بن زيد وعبد الله السعد القبلان، كما تتطرق لوصف المدن والبلدان التي زارها داخلياً وخارجياً، والى بعض القضايا التي واجهها في عمله مما يدخل في طبيعة الجمارك (مثل التهريب).

فالكتاب في الواقع حديقة واسعة، يتجول فيها القارئ الذي يبتغي المتعة، والباحث الذي ينشد المعلومة، ولو قدر لمؤلفه أن وضع كشافاً مفهرساً عاماً لمحتوياته من الاماكن والإعلام لكان الحصول على الفائدة اكبر وأيسر، وان كان يحمد للمؤلف أن فهرس المحتويات جاء مفصلاً تفصيلاً لا يقل عما تعوّده القارئ في اعداد الكشاَّفات. كما انه، وان بدت عاطفة تظهر احياناً تجاه مدينته وأفراد أسرته، مما يمكن تفهمه، ولكنه في الحقيقة كتاب لا تنقصه الصراحة والموضوعية والشفافية، مما قد يعرضه لشيء من الاحتجاج من آخرين. أن كتاب خواطر وذكريات (3 أجزاء) للشيخ إبراهيم بن محمد الحسون، هو بحق جسر تاريخي بين ماضي البلاد وحاضرها، وهو، مرايا لثقافة مناطق المملكة المتنوعة، حجازها ونجدها، شمالها وجنوبها وشرقها، موثق بالمعلومات والصور، لا يقل عما قدمه محمد علي مغربي وحسن عبد الحي قزاز وغيرهما من ذكريات وتصوير لمظاهر الحياة الاجتماعية في بعض مناطق المملكة، امتزج فيها استعراض النشأة والطفولة والشباب والكهولة مع مظاهر الحياة في المدن والمجتمعات الصغيرة التي عاش فيها على مدار عقود تسعة من عمره. وإذا كان من ملاحظة ثالثة على الكتاب فهي حاجته إلى تعزيز بعض الحوادث والمعلومات، بمزيد من التوثيق بالتواريخ وذكر الأعوام التي حدثت فيها، على أن هذه الملحوظة لا تنقص من قدره ولا تشكك في معلوماته، لأنه يتحدث عن وقائع عايشها المؤلف بنفسه، فكان رصده لها أميناً ودقيقاً، والمؤلف في معظم ذكرياته يعد مصدراً أول لكثير من المعلومات وشاهداً عليها. إن مصدر التقدير للشيخ الحسون ـ الذي أهدى مكتبته الخاصة الضخمة قبل ثلاثة أعوام، ونقلها تحت إشرافه، وجهز مكانها، في مكتبة مركز ابن صالح الثقافي في عنيزة، وفاءً منه لمسقط رأسه، وتكريماً منه لمركز أستاذ الجيل(ابن صالح) ـ انه حرص على أن يسجل مذكراته قبل أن تندثر أو تتجزأ، كما يقدر له انه، وقد غاب عن مدينته عدة عقود، لم يعد إليها بجسمه فقط، ولكن بالقلم والكتاب اللذين شقا له طريق النجاح في حياته، ليثبت أنها (أي مسقط رأسه) كانت تعيش في وجدانه أبداً. فمرحباً بالحسون مؤرخاً وكاتب مذكرات، وان عمله في رصد ذكرياته نموذج نتمنى أن يحتذيه كل مثقف مر بما مر به الشيخ الحسون من تجارب، وشهد ما شهد من تحولات اجتماعية وثقافية واقتصادية كبيرة.

* إعلامي سعودي، عضو مجلس الشورى < خواطر وذكريات