لعل من نافلة القول وتكراره: إن العبرة ليست في كمّ البرامج أو عدد القنوات، ولا بصيغ متماثلةٍ من المقابلات، بل في وصفة سحريّة تُدعى (الاحتراف) لم نستطع بعدُ فك رموزها أو الوصول إلى تحديد مفهومها وأبعادها.
وإذا كنا لم ننجح بعدُ، وبخاصة على صعيد الإعلام الرسمي، في دخول حلبة المنافسة الإعلامية، فربما لأننا ما نزال بعيدين عن إدراك هذه الحقيقة، ناهيك عما يتطلبه الإعلام من الاستقلالية الإدارية والمالية ونحوهما، وليسمح لي القارئ الكريم أن أستحضر له عنوان مقال كتبته في هذه الجريدة قبل عشر سنوات (11-8-1417هـ)، فكان أن تصدّت له الجهة التي كان من المفترض أن تسبق إلى الأخذ به.
الداعي لهذا المقال مقابلة مهمة في موضوع مهم مع شخصية مهمة أجرتها (الإخبارية) قبل يومين، ولم تكن في نظري موفقة، وما كان بالإمكان تدارك أوجه القصور فيها لأنها كانت تبث مباشرةً على الهواء.
كانت الأسئلة بعيدة كل البعد عن اختصاصات الضيف، وكانت جرأة الطرح في غير محلها، واشترك مقدم البرنامج والمتصلون به من خارج الاستوديو في عدم استيعاب مسؤوليات الضيف وحدود صلاحيات جهته، وكان الخلط واضحاً بين ما هو تنفيذي يدخل في اختصاص الوزارات، وما هو رقابي تنظيمي يدخل في مسؤولية السلطة التنظيمية.
ليس المقصود هنا كشف الأسماء، وإن كان قد شاهدها الآلاف، لكن المهم أن نصون مهنة الإعلام وأن نحمي استخداماتها من الوقوع في الأخطاء، وأن نعمل على ترشيد برامج البث المباشر واستدراك ما يرد فيها من الذلاّت، سواء كانت تلك البرامج إذاعية أو تلفزيونية.
لقد كان التلفزيون في العقد الأول من عمره، يتمنى لو تتاح له مرونة البث المباشر وتقنيته، لأن له وقعاً إيجابياً جيداً على المشاهدين، ولأن فيه توفيراً للطاقات والجهود. لكن الذي حصل عندما تهيأت هذه الميزة وانفتح الإعلام على مرونة رقابية بعيدة المدى مقارنة بما كنا نحاسب عليه قبل عقود، إذا بنا نسرف في استخدام فرص البث المباشر إلى حد قد يصل أحياناً إلى الابتذال، وخير شاهد ما حصل في تلك المقابلة – الاستجواب – وإن كان الضيف قد تلقى استفزازها بأدبٍ جمٍّ وأريحيَّةٍ عالية.
أما الغاية الثانية من هذه المقالة فهي في الواقع إثارة ما تتضمنه بعض برامج البث المباشر من أسئلة أو فتاوى في الدين أو استفسارات اجتماعية، وتكون إجاباتها، عن حسن ظن، أكثر ضرراً وهدماً لما تنادي به وسائل الإعلام ذاتها، وكل أجهزة الدولة، من حرص على تعزيز الوحدة الوطنية والتآخي ونبذ الفرقة والاختلاف، فضلاً عما يضمه بعضها من إسفاف لا ينبغي أن يفسح له المجال في وسائل الإعلام.
وفي تقديري أن ما تفتعله بعض البرامج من جرأة مصطنعة أثناء البث المباشر، ليست من (الشطارة) الإعلامية في شيء، بل إنها ربما تسببت في إحجام الكثيرين من المشاركة في البرامج وعزوفهم عن الإسهام فيها، وهو عذر لا مشاحّة في وجاهته.
فهل لنا، باسم المهنة والمسؤولية الاجتماعية، أن نناشد القائمين على هذا المرفق الحساس، العمل على تقويم برامج البث المباشر سواء كانت في الإذاعة أو في التلفزيون، وسواء كانت البرامج دينية أو سياسية أو اجتماعية أو وطنية أو تربوية أو رياضية، وأن نرفع من مستوى مقدميها، مع اصطفاء محاورين أكفاء لمثل هذه الحوارات تكون على دراية بموضوعاتها، مع تبصيرهم بمسؤولياتهم الأدبية والإعلامية؟