التجربة السعودية، التي لم تكمل بعد عامها الأول، وأقدمت عليها الشركة السعودية للأبحاث والنشر، التي تصدر نحو عشرين مطبوعة، ستكون تجربة جديرة بالدراسة والتحليل على صعيد الإعلام الصحافي العربي بعامة، والسعودي بخاصة، ذلك أنها ربما تكون الحالة الوحيدة – عربيا – التي تتبنى فلسفة تقوم على مبدأ فصل التحرير عن هيمنة الإدارة وسطوة الإعلان، وذلك من خلال إنشاء مجلس أمناء لمطبوعاتها.
والواقع أن هذه الخطوة الجديدة، لم تكن الوحيدة التي اتخذتها الشركة في هذا الاتجاه، فتركيبة الشركة تقوم أساسا على جعل كل قطاع (التحرير، الإعلان، الطباعة، والتوزيع) شركات مستقلة، وهو ما تنفرد به بين دور الصحف العربية، أو تكاد..
إن المفهوم الإعلامي المتقدم في فكرة مجلس الأمناء ومقاصده، قد اقتبست معالمه من دور صحافية غربية كبرى أخذت به قبل نحو ثمانين عاما بهدف ضمان استقلال توجه المطبوعة وحماية جهازها التحريري وإبعاده قدر الإمكان عن تأثير الملاك وتعاقبهم.
بدأت فكرة مجلس الأمناء في مجال الإعلام أول ما بدأت، في أواخر العشرينات من القرن الماضي، حينما ظهرت الحاجة إليها في الصحافة الأهلية، لضمان حسن تنفيذ وصايا مؤسسيها بعد وفاتهم، خشية أن يقوم الورثة بتغيير مسارها ونهجها، وعرفت تحديدا في البداية في صحيفتي «الإيكونومست» و«الغارديان» البريطانيتين.
كما كانت عرفت في مجالات أخرى عدة وبخاصة في المؤسسات الخيرية، يأخذ بها مؤسسوها الأثرياء، بهدف حسن تنفيذ وصاياهم بعد رحيلهم، وهي بالعادة، في الصحافة أو غيرها، تشكل من شخصيات أكاديمية وقانونية متطوعة، أو مقابل أتعاب معلومة لا تتداخل مع مصلحة العمل، وهو نهج سارت وتسير عليه الآن مؤسسات ذات صبغة خيرية أو علمية في السعودية وفي العالم العربي بعامة.
مجلس الأمناء، موضوع هذا المقال، صمم في السعودية على غرار هذه التجربة البريطانية التي انتشرت في دور صحافية عالمية رصينة، وقد وضع له مشروع نظام يحدد أهدافه، ويكفل له ممارسة صلاحياته بشكل مؤسسي، ويضمن له قدرا من التوازن في علاقته مع مجلس الإدارة ومجموعة الشركاء، وسيكون نشاطه منصبا على تقويم الأداء الصحافي (المهني) للمطبوعات وجهازها التحريري، بما يحقق الارتقاء بالمضمون، وقد حرص مجلس الأمناء في عامه الأول على وضع معايير ـ هي الآن تحت الدراسة ـ مهنية واضحة للأداء، يمكن متى أنجزها بالتشاور مع المحررين وأصحاب الخبرات التراكمية، أن تحتذى في مؤسسات صحافية أخرى، ترغب في الأخذ بفكرة المجلس ومعاييره في السعودية نفسها أو في العالم العربي.
ولقد حرص المجلس منذ العام الأول لتكوينه على تبديد الشكوك حول دوره الرقابي، وأنه سيحرص على إقامة علاقة تمد جسور التشاور والتعاون والاحتراف، مع أجهزة التحرير في مطبوعات الشركة، مما يحتم اقتناع المحررين بكفاية المجلس وخبرته.
إن من شأن تكوين المجلس من ذوي الخبرات العالية، مع توافر مناخ الانسجام والتناغم المهني بينه وبين رؤساء التحرير، أن يرتقي بالمستوى الصحافي والأدبي المعنوي للمطبوعات المستهدفة، وهو ـ بلا شك ـ الهدف الأساس من إقامة مجلس الأمناء.
ستبقى الفكرة مثالية ونظرية في بداية الأخذ بها في عالمنا العربي، لكنها ستكون جديرة بالاختبار والمراقبة، فهي إذا ما استطاعت أن تثبت وجودها في هذه التجربة ـ الأولى من نوعها ـ سيكون لها ما بعدها من حيث المحاكاة في مؤسسات إعلامية عربية وسعودية مماثلة، وفي تقديري، أن الصحافة العربية هي أحوج ما تكون إلى الأخذ بها، في زمن صار رئيس التحرير ومستقبله في كف المفاجآت.
إن الحديث عن فكرة تطبيق أول مجلس للأمناء في الصحافة العربية، واقتراح تعميمها في المؤسسات الصحافية الأهلية الكبرى، يعيد إلى الذهن تجربتين سابقتين مرتا في تاريخ الإعلام السعودي، وهما جديرتان بالتذكير:
الأولى، أن الصحافة السعودية كانت في معظمها وحتى عام 1963م صحافة أهلية فردية الملكية، ثم اتجهت الحكومة إلى تحويلها إلى مؤسسات أهلية يشارك في ملكيتها مجموعة من المستثمرين من رجال الأعمال والمثقفين، وهو تنظيم ما زال يحكم معظم الصحف المحلية الصادرة اليوم في السعودية، وكان قد تضمن بنودا تحاول فصل التحرير عن مقتضيات الربح والخسارة، مما لا يبعد كثيرا عن الأسس المطروحة في هذا المقال (أي فصل التحرير واستقلاليته عن الإدارة) إلا أن تلك البنود لم تفعّـل بما يخدم المقصد المذكور.
ثم جرى قبل عدة أعوام تعديل نظام المؤسسات الصحافية، مع تخفيف هذا التوجه على نحو جعل من مجلس الإدارة الموجه الأكثر نفوذا في المؤسسة الصحافية، مع المحافظة على دور مركزي لوزارة الثقافة والإعلام في اختيار رئيس التحرير وتغييره، وهو أمر يتطلب في الواقع نظرة جادة جديدة، ربما يكون حلها في تبني فكرة مجلس الأمناء ـ موضوع المقال.
أما الأمر الثاني، فهو أن الإعلام السعودي شهد في العقود الماضية قيام مجلس إشرافي تنظيمي أعلى للإعلام، ثم ألغي قبل خمسة أعوام في خطوة غلبت فيها مسألة التنظيم الإداري على مهنية العمل الإعلامي، وهي خطوة خلقت فراغا نظاميا يحتاج شرحه إلى مقال آخر.
لكن فيما يتصل بموضوع هذا المقال، كان يمكن للمجلس الأعلى للإعلام، لو كان قائما الآن، أن يتبنى تقويم تجربة مجلس الأمناء وربما الأخذ بها، لتحقيق هدف تعزيز استقلالية جهاز التحرير وحمايته، وفصله عن مقتضيات الربح والخسارة ما أمكن، وبالتالي صون الاحتراف الصحافي (المهني).
* باحث وإعلامي سعودي