مجلس الشورى السعودي على مشارف العشرين


أن يكتب محلل عن عمل سبق له ارتباط به، فهو – في الغالب – لن يسلم من مظنّة المحاباة إن أطرى، أو التحامل إن هو انتقد، معادلة تصعب المحافظة على موضوعيّة السير فيها بين النقيضين.

هذا ما جعلنا نتردد كثيراً، عندما كنا في محاولة لإدخال السرور على خاطر زميلنا الراحل د. صالح المالك، وهو يمسك بأيدي زملائه الأحد عشر الذين أمضوا معه الدورات الثلاث الأوليات في مجلس الشورى، يتمنى عليهم أن يدوّنوا تجربتهم، فكان ما كان – بعد تردّد – من تأليف ثمانية منهم كتاب: مجلس الشورى – قراءة في تجربة تحديثه، الصادر قبل عامين.

ولأن من غير اليسير في حيّز محدود الإحاطة بقصة الشورى، تاريخاً وواقعاً وتحديات، أو التطرق إلى الجدل الدائر في الكتب الحديثة حول الشورى والديمقراطية والحكم الرشيد، فإن الحديث سيتركز على آمال التطوير، منطلقاً من الاعتقاد بأن المؤسسة الدستورية، قضائية كانت أو تنظيمية أو تشريعية، تليها مؤسسات المجتمع المدني، هي الوجه الحقيقي الأبرز لقياس التحوّل والانفتاح والتطوّر في أي مجتمع متحضر.

لقد كان المجتمع السعودي في عام 1345هـ (1925م) على موعد مع أول انتقال من حالة التقليدية في ممارسة شؤون الحكم إلى العمل المؤسسي، وذلك عندما اختار المؤسس – قبل خمسة وثمانين عاماً – طريق الشورى عنواناً للدولة، وأحسب أنه قد وجد في تجربة ناشئة في الحجاز حينها، نموذجاً يصلح لما كان يأمله – شكلا ومضمونا – للتحوّل المنشود، فأعلن البلاد «ملكية شورية إسلامية مستقلة» في أول وثيقة دستورية مكتوبة معلنة (1345هـ – 1926م).

ثم صار مجلس الشورى القديم ميدان تجربة واختبار، من مجلس استشاريّ إلى مجلس أهليّ إلى مجلس شوريّ، وذلك قبل أن يستقر اسمه مجلساً للشورى، بدأ بالانتخاب، واستمر بالاختيار والتعيين، وتدرّج من ثمانية أعضاء إلى خمسة وعشرين، ومن مجلس يستحوذ على السلطتين التشريعية والتنفيذية في آن، ويصدر القوانين، إلى مؤسسة لدراسة الأنظمة واللوائح، تخلّت عن اختصاص المسؤولية التنفيذية لمجلس الوكلاء الذي تأسس عام 1350هـ (1932م) نواة لمجلس الوزراء (السلطة التنفيذية).

ثم جاء عام 1373هـ (1953م)، عام وفاة الملك عبدالعزيز، وعام إنشاء مجلس الوزراء، وعام بدء انتقال الحكومة من العاصمة المقدسة إلى العاصمة السياسية، ليبدأ مجلس الشورى مرحلة سبات دامت أربعة عقود، خَفَتَ فيها بريقه، وتحوّل إلى كيان صوريّ، يظهر في الهيكل التنظيمي للدولة وفي ميزانيتها، ويعقد الجلسات بين الحين والحين حتى نهاية القرن الهجري الماضي تقريباً 1400هـ (1980م)، لكن تجربته ما زالت باقية في ذاكرة الوطن، وآثاره محفوظة في موسوعة الأنظمة وأرشيف الصور وأضابير القرارات.

في عام 1400هـ (1980م) تشكّلت لجان لوضع حزمة متكاملة من الأنظمة الدستورية (النظام الأساسي للحكم، ونظام مجلس الوزراء، ونظام مجلس الشورى، ونظام مجالس المناطق) شكّلت عند إقرارها بعد عشرة أعوام 1412هـ (1992م) نقلة دستورية مهمة في تاريخ البلاد، غير أن صدورها جاء في ظل مخاض محلي صعب، وظرف دولي دقيق، جعلها تصطبغ إلى حد ما بصبغة المرحلة، بين رغبةٍ في الانفتاح ومحيطٍ متحفظٍ مقاوم، وبين توجهٍ نحو التدرج ودعوة لمجاراة ما يحيط بنا من تطورات دستورية وسياسية متسارعة.

لقد كان من غير المتوقع، وقد مضى على تعطّل مسيرة مجلس الشورى القديم أربعة عقود، أن يبدأ المجلس الحديث من حيث انتهى القديم، ولعل أحداً منا لم يكلّف نفسه العودة إلى نظامه وإجراءاته، وصار الرابط بين المجلسين التسمية والهدف والتاريخ، فكل شيء في البلاد قد تغيّر.

جاء مشروع التحديث جديداً بكل معاني الجدة ومعطياتها، وتدثّر المجلس الجديد بقميص التحفظ الذي انطلق في أجوائه، أبعد ما يكون عن الانفتاح على وسائل الإعلام، فضلا عن التفكير في اقتراح تعديل أي مادة له فيها نظر، فانصرف لتأسيس قواعد العمل الداخلية والمالية والإجرائية وتطويرها وإخضاعها للتجربة، لكنه انفتح بقوة على المجالس البرلمانية الخارجية، واكتسب عضوية الاتحاد العربي والإسلامي والدولي، وروّج لمصطلح (فقه الشورى) في الأوساط التشريعية، بشكل أكسبه اعترافاً غير مسبوق في المحافل الأجنبية.

ثم جاء العام 1424هـ (2003م)، عام الخطاب الملكي الشهير الذي أعلن عن منهج الإصلاح السياسي، فتحقق للمجلس بعد عقد من ممارسة عمله، مكسبان هما من أبرز ما تحقق له من دعم معنوي منذ تحديثه: انفتاحه على الإعلام وتعديل مادتين من مواده (17 و23)، تختص الأولى منهما بتوضيح مسار الاختلاف بين مجلسي الشورى والوزراء، بما يرجح كفة الشورى في المرجعية، قبل أن يحتاج الأمر إلى قول فاصل من مرجع السلطات (الملك)، بينما اختصت الثانية بتوسيع صلاحية المجلس في النظر في المستجدات، وفيما يرغب بحثه من أمور.

ومع أن المجلس كان هو الساعي المبادر لإجراء هذين التعديلين المهمين، وهو من اقترح صياغة مشروعهما، إلا أن المعتقد اليوم، وبعد مرور سبعة أعوام، أنه لم يستثمرهما كثيراً بالقدر الذي يتناسب والحرص الذي أبداه لإصدارهما.

كان المجلس حتى عام 1424هـ (2003م)، يلتزم بمنطوق المادة الأخيرة من نظامه التي تحصر النظر في تعديل مواده بالجهة التي أصدرته (الديوان الملكي)، فلما جاء الخطاب السامي المشار إليه آنفاً، كان المجلس أول المستفيدين مما جاء فيه من ترحيب بأفكار التطوير، والأهم من ذلك أنه فتح الباب أمام المجلس للمطالبة بمزيد من تطوير نظامه متى أحس بحاجة إلى ذلك.

اليوم، ومجلس الشورى يصعد العتبات نحو عشرين عاماً منذ تحديث نظامه وتجديد هندامه، هناك الكثير مما يقال راجحاً أو مرجوحاً عن نظامه ومسيرته وأدائه، لكن الإنصاف يقرر أن إنجازاته فيما يتعلق بدراسة الأنظمة تحديداً، وفيما يتصل بارتفاع سقف حرية التعبير داخل أروقته وتحت قبته، هي إنجازات واضحة للعيان، غير أن هناك أربعاً من القضايا الأبرز التي ما زالت معلقة، تشغل بال المهتمين بالعملية الشورية، وتحتل أذهان المتطلعين إلى مزيد من خطوات التحول والارتقاء والتطوير في الشأن السياسي والدستوري، وهي قضايا تمثّل المكانة الأكثر تداولا في أقلام الكتّاب والمعلقين، نوردها فيما يلي، في تشخيص هو أقرب إلى التشريح من الحلول:

الأول: الفصل بين السلطات:

إن من يقرأ في النظام الأساسي للحكم، وفي نظامي مجلس الوزراء ومجلس الشورى، لا يجد حصراً في الاختصاص بالسلطة التنظيمية لمجلس الشورى، وإذا كانت المادة (44) من النظام الأساسي للحكم، قد نصت على أن سلطات الدولة تتكون من قضائية وتنظيمية وتنفيذية، وأن المادتين (19 و24) من نظام مجلس الوزراء تؤكدان اختصاصه بالسلطة التنفيذية، فأين هي السلطة التنظيمية؟

الواقع أن مزيداً من التعمق في قراءة هذه الأنظمة، يكشف أن المشرّع ربما قصد أن تكون السلطة التنظيمية ثمرة تعاون مشترك بين المجلسين، فنتج عن هذا الواقع ضعف «إلزامية» الرأي الشوريّ، طالما أن الكلمة الأخيرة في اتخاذ القرار هي في يد من يقرّ الأنظمة في المرحلة النهائية لا في يد من يدرسها.

ثم يرد تساؤلان: كيف تُعدّ آراء مجلس الشورى «قرارات» كما ورد في نظامه في حين أنها غير ملزمة، وكيف يكون مجلس الشورى السلطة التنظيمية في حين توجد محاولات للالتفاف على قراراته أو تجميدها أو لتجنّب المرور عليه أصلا؟

إن هناك من بين القانونيين الدستوريين من يرى ضرورة أن تكون السلطة التنظيمية (التشريعية) محصورة في مجلس الشورى، وأن ينحصر الاختصاص التنفيذي في مجلس الوزراء، بينما هناك منهم، من يرى أن المجالس التشريعية لا تستقل بالضرورة بممارسة السلطة التشريعية دون مشاركة من الهيئة التنفيذية، وجرت العادة في بعض الدول أن توجد جهة دستورية تحافظ على مسألة الفصل بين السلطات الثلاث، وتراقب تحقيق التعاون والتكامل بينها.

الثانية: الرقابة على أداء الحكومة:

لا يوجد في نظام مجلس الشورى ما يخوّله – صراحة – صلاحية الرقابة السابقة أو اللاحقة على أداء السلطة التنفيذية (الحكومة)، وبخاصة فيما يتصل بإقرار ما تقدمه من برامج عند تشكيل الوزارة، أو إقرار تعيين كبار المسؤولين، أو برامج الميزانية العامة ومشروعاتها، لمعرفة أوجه توزيع الموارد وإنفاقها، لكن الواقع أن المجلس وجد في صلاحية مناقشة التقارير السنوية للأجهزة الحكومية (الفقرة د. من المادة 15 من نظامه) نافذة يطل منها على أداء الجهات الحكومية التي ترسل تقاريرها، ومنفذاً يدخل منه المجلس لدعوة المسؤولين ومناقشتهم.

والحقيقة أن هذا القصور في اختصاص المجلس بهذا الأمر، هو أحد أهم ما يسجل على ضعف صلاحياته مقارنة مع المجالس المماثلة له في العالم، وكان – بالمناسبة – إحدى نقاط الملاحظة من الاتحادات البرلمانية التي قبلت بعضوية مجلس الشورى وفق معاييرها.

الأمر الثاني: لقد قيل أيضاً ما قيل حول الطابع الإعلامي والروتيني، الذي تُعدّ به هذه التقارير، والرتابة التي صار المجلس يتعامل بها عند دراستها، وعدم فاعلية ما يبديه عليها من ملحوظات.

الثالثة: اصطفاء الأعضاء:

تدور تحت هذا العنوان مناقشات، تتناول أموراً من أهمها: الانتخاب في مقابل التعيين، وأسلوب الاختيار والتعيين، والعدد الأمثل للمجلس، إلى غير ذلك من الأفكار.

وقبل الدخول في مناقشة هذه القضية، لا بد من النظر أولا في الوظيفة الأساسية لمجلس الشورى، بين أن يكون محاكاةً لهيئة أهل الحل والعقد في العرف التاريخي، أو مجمعاً للخبرات، أو مجلساً برلمانياً (وفق الأصول والأنظمة الديمقراطية)، كما يرد تساؤل آخر عن الأساس الذي بُنيت وتُبنى عليه زيادة أعضائه.

إن هناك من يجادل في أن مجلس الشورى، في شكله الحالي، هو هيئة تقدم المشورة لولي الأمر فيما يرجعه إليه من أمور، وبالتالي فإن مسألة الانتخاب والتعددية والجهوية فيه أمور غير ضرورية، في حين أن هناك من يرى أن المجلس، وبخاصة في دورته الأولى ذات الستين عضواً، كان أشبه ما يكون بمجلس خبرات، وبالتالي فإن تنوع التخصصات، وتكوين اللجان هما الأساس في تشكيله.

وبالإضافة إلى هذا الجدل المهم، هناك واقع يقول إن تكوين المجلس بدأ – عبر الدورات – يأخذ في جزئية من اختياراته، منحى المجاملات والترضيات الفئوية والاجتماعية في جهد لجعله ممثلا غير معلن للمجتمع السعودي، وبالتالي فإن في تطبيق الانتخاب الكلي أو النصفي كما اتبع في تشكيل المجالس البلدية، ما قد يحقق – وهذا هو المهم – صدقيّة التمثيل الفئوي والجهوي، متى ما توافرت فيه الضوابط الحازمة، فضلا عن كونه يقطع الطريق على ملاحظات هيئات برلمانية دولية تعترض على أسلوب التعيين سبيلا لتكوين المجالس التشريعية.

ولعل التفكير في إنشاء مجلسين (غرفتين) يتكاملان في المسؤولية التنظيمية (التشريعية)، يكون أحدهما للشورى بالتعيين، وفق العرف الإسلامي، والآخر برلماناً بالانتخاب حسب النمط العصري، ما ينهي جدلية الاختيار مقابل الاقتراع، وهو إجراء أخذت به دول تشابه هذه البلاد في نظامها السياسي وواقعها الاجتماعي والثقافي.

الرابعة: المرأة في مجلس الشورى:

غير بعيد عن قضية اصطفاء الأعضاء، تبرز مسألة حق المرأة في المشاركة السياسية، غير أنها تفرد تحت هذا العنوان تقديراً لأهميتها، فعبر عشر سنوات – ومنذ أن استضاف المجلس لأول مرة مجموعة من الموظفات والأكاديميات، لإبداء الرأي في قضية تتصل بعمل النساء وتقاعدهن، ومروراً بإلحاق مشاركات في الوفود الشورية إلى المؤتمرات الدولية، وانتهاءً بتعيين مستشارات في المجلس لأخذ رأيهن في القضايا المتصلة بالأسرة والمجتمع – والنقاش لم يفتر حول أحقية المرأة في عضوية المجلس، بين من يرى عدم أهلية المرأة للولاية في الوظيفة القيادية والعليا، وبين من يرى أن النساء شقائق الرجال، وأن المرأة كانت دوماً نصف المجتمع، خدمةً ومشورة ومسؤوليات، وأن الداعي لتفعيل دور المرأة شورياً ليس لمراعاة العصرية أو لتحسين وجه الوفود، أو التشبه بالآخرين.

وبعد:

إن الاستمرار في طرح مثل هذه الأمور، هو دليل صحة وأمل واهتمام بالمجلس، يرجى ألاّ يخفّ أو يخفُت، وإن من المألوف كلما دار نقاش في المحافل أو في وسائل الإعلام، أن نفكر – بشكل خاص – في دور المجلس في مناقشة القضايا المجتمعية الجدلية المعلقة، وفي هذا السياق يرد تساؤلان هما:

أ – أي تركيبة في عضوية المجلس يمكن أن تكون متوازنة، ممثلة لشرائح المجتمع السعودي، بحيث يركن إليها عند بحث قضايا مجتمعية، بما يضمن الوثوق في نتائج ما يتوصل إليه حيالها من رأي أو قرارات؟ فلقد ثبت أن قرارات المجلس تتأثر كثيراً بتكوينه دورة إثر أخرى.

ب – ما هو الحد الفاصل بين قضية مجتمعية يمكن النظر فيها عبر مداولات ودراسات تحت قبة المجلس، وأخرى يحتاج البت فيها إلى قرارٍ سياسي أو إداري من الهيئة التنفيذية أو من الملك؟

لقد حظيت عودة الحياة الشورية المنظّمة، المتمثلة في المجلس، بترحيب مجتمعي كبير قبل عقدين، على أمل أن توسع دائرة المشاركة السياسية الشعبية، وتفك احتكار دراسة الأجهزة الحكومية للأنظمة، وتتيح المجال لمئة وخمسين عضواً من مختلف مناطق المملكة للمشاركة في وضع الأنظمة بحكم أنهم الأقرب إلى ملامسة حاجة المواطنين وتفهم ظروفهم، والأحرى بتوجيه الأنظمة نحو التخفيف على الناس، إذ يظل المجلس – وإن كان لا يُعد وفق الأصول البرلمانية ممثلا دقيقا للمجتمع، وفي ظل غياب صندوق الاقتراع – مؤشراً مقارباً لنبض المجتمع وانطباعاته.

أما الانفتاح على الإعلام، والذي أزال القناع عن وجه المجلس قبل أعوام، فإن له وظيفة ركنيّة غير تجميلية، وظيفة لا تكتمل العملية الشورية إلا بها، ألا وهي تسديد الحوار الجماهيري الموضوعي لما يطرح في المجلس من قضايا تنظيمية أو اجتماعية، حيث يظل الإعلام الموزون الشفاف حصناً من حصون التعبير وتخمير الآراء. والمرجو أن يأتي اليوم الذي يكون فيه المجلس صوتا أصيلا للوطن والمواطنين، وألا تتوقف حركة تطويره عبر إيقاعٍ متدرج واعٍ مستنير ومسؤول، مُذكِّراً – في الختام – بأن مسؤولية خاصة تقع على من يتوشح بعضويّة المجلس، أفراداً وجماعات، أن يدوّنوا تجربتهم، ويُبدوا رأيهم، ويدافعوا عن مصلحة الوطن في تعزيز مكانة المجلس ووظيفته الدستورية، الشورية والتنظيمية.

* ألقيت في أحديّة د. راشد المبارك بالرياض (5/12/2010م).

** باحث وإعلامي عضو سابق في مجلس الشورى.