لعل الكتابات الإسلامية المكثفة والسمات الدينية التي اتسمت بها حياته في عقودها الأخيرة، قد أنست الكثيرين تخصصه العلمي الأساس (جيولوجيا)، وهو أمر غلب على من انشغلوا بالشأن الدعوي من ذوي التخصصات العلمية والطبية، مع تباين نسبي في درجات معارفهم الشرعية.
أما إذا أردت أن تفسر شخصيته من جوانبها المتعددة الدينية والمدنية، فلا بد من أن تقرأ في شخصيات المؤثرين في حياته، منذ أن تخرج في كلية العلوم في جامعة الملك سعود (1967) والتحاقه ببرنامج الدكتوراه في جامعة كورنيل، وأحسب أن أولهم هو عبد الله كامل (مدير عام ديوان رئاسة مجلس الوزراء في عهد الملك فيصل) وابنه رجل الأعمال السعودي المعروف صالح كامل، فالأول غيّر مجرى حياته الأسرية بالمصاهرة، والثاني حول بعضا من اهتماماته ونشاطاته إلى وجهة تجارية.
أما التأثير الثالث، فقد تلقاه من خلال المكانة التي حظي بها لدى الملك خالد، الذي استلطف حديثه وجرأته ومنطقه في بعض الأمور، وأسلوب ممارسته العمل إبان حقبة وزارة الإعلام (1975 – 1982).
أما المؤثر الرابع ولعله الأهم فكريا الذي صبغ النصف الأخير من حياته، فتمثل في العلاقة الوثيقة التي ربطته مع الداعية المعروف الشيخ محمد متولي الشعراوي، حيث كان الأخير أستاذا للشريعة في مكة المكرمة، وكان الدكتور يماني وكيلا ثم مديرا لجامعة الملك عبد العزيز التي تشرف على فرع الشريعة في أم القرى، فلقد تأثر بفكره وتوجهه الروحاني، بتوخي تربية النفوس والسمو بها بغية الوصول إلى الحقائق الإيمانية، فنهج بكتاباته منهجا أقرب إلى الفكر والمنطلقات التصوفية السنية، وأخذ ينادي بتعظيم مناسبات دينية معينة (كالمولد والإسراء) والاحتفال بها، وهو توجه يتوقف عنه الفكر المذهبي السائد في عموم البلاد.
كانت تلك الفترة (منتصف السبعينات) هي بداية ارتباطه بالعمل الوزاري (وزيرا للإعلام) في أول حكومة تشكلت في عهد الملك خالد، حيث بقي فيه طيلة عهده (8 سنوات تقريبا)، وكانت المسحة الدينية قد بدأت تشكل فكره واهتماماته، وبدأ الشيخ الشعراوي يحتل مقعدا أكبر في وسائل الإعلام المرئية بالذات.
خرج الدكتور يماني عن المألوف في إدارته للعمل الإعلامي، ومارس (الشطارة) في التعامل مع كثير من القناعات التقليدية السائدة. فنجح في بعض مغامراته فيها، ولعل في مقدمة أمثلة ذلك رفعَ حاجب السرية عن أخبار مجلس الوزراء، ساعده في ذلك خفةُ روحه وطلاوة حديثه وجسارته والاقتراب من مجلس الملك وديوانه، وهو أي – الاقتراب – ميزة لم يحظ بها سوى عبد الله بلخير في عهد الملك سعود، الذي كان يقسم وقته بين عمله في الديوان وعمله في الإعلام.
وبحكم تنشئته الشعبية المبكرة في أحياء مكة المكرمة وقربه من الناس، استطاع الدكتور يماني أن ينشئ علاقات بسيطة مع طبقات العاملين كافة في وسائل الإعلام وفي تعامله اللابيروقراطي مع العمل، وهذا بعض ما عنيته بكسر بعض التقاليد الإدارية والإعلامية المعمول بها.
إلا أن أسلوبه في العمل أوقعه في بعض الإخفاقات، وهو بهذا ربما دفع ثمن كثرة ظهوره الإعلامي وتعدد تصريحاته، ولعل من غير الإجحاف القول إن وزارة الإعلام في عهده تراجعت عن وتيرة الإنتاج المحلي المتصاعد في تلك الفترة لصالح الإنتاج الخارجي.
وبقدر ما كان الاقتراب من مجلس الحاكم يفيد في تحقيق المرونة وبعض المكاسب للدائرة التي يعمل بها المسؤول، ويتيح له الفرصة للاطلاع على بواطن الأمور وخلفياتها، إلا أن ذلك قد يسن قاعدة تحجيم دوره في التصرف في المواقف الإعلامية والتعامل مع الأخبار الخارجية بالذات، ويعوّد الحاكم التدخلَ في العمل الإخباري اليومي، وهي سنة لها – كما رأينا – عيوبها ومزاياها، أعاد بها الدكتور يماني ما كان يطبقه سلفه الشيخ بلخير، ثم سار عليها بعض سلف الدكتور يماني نفسه.
وفي تقديري أن فترة الدكتور محمد عبده يماني في وزارة الإعلام، كانت تمثل سمة لها خصائص عدة، وتحتاج إلى دراسة أعمق، وكان من ملامحها التآخي بين الجيولوجيا والثقافة، وانعكاسات المقاربة بين الحاكم والإعلام.
لقد كان أبو ياسر – رحمه الله – ظاهرة، نسيجا وحده، اجتماعيا من طراز خاص، جمع خصيصة ائتلاف الصغير وممازحة الكبير، وبين الجدية بأسلوب المرح، وأجاد حبكة الرواية مهما تنافرت مفرداتها، وبين لباقة الجرأة والمجاملة، والوطنية والقومية، وكان الداعية الخبير بمخاطبة الأقليات، وأظن أن سيرته ستبقى موضعا للتحليل الأصدق بعد رحيله.
* باحث وإعلامي سعودي