مستشارون في بلاط عبد العزيز


كلما تدنو ذكرى اليوم الوطني لأي بلد، يكون استذكار تاريخ التأسيس ورجالاته ورواية الأحداث الممهدة لقيام الكيان السياسي، من أمتع الموضوعات التي يتسابق الكتاب إلى توجيه أقلامهم نحوها، ويتطلع القراء إلى معرفتها والاطلاع عليها.

والأهل في المملكة العربية السعودية، لا يقلون عن غيرهم من شعوب الأرض من حيث الاعتزاز بيومهم الوطني الذي يحل في الثالث والعشرين من شهر سبتمبر (أيلول) من كل عام «ويصادف الأول من برج الميزان سنوياً» وهو مناسبة إعلان توحيد أقاليم المملكة عام 1932م، فهم يشعرون أن ما تم حيال وحدة بلادهم أمر يستحق أن يدخل في باب المعجزات، بالنسبة للظروف التي أحاطت بولادتها، وبحجم المساحات الجغرافية التي تكونت منها، وهم يثمنون الجهد العظيم الذي قام به مؤسسها ورجاله، منذ أن بدأ مشروع لم شمل أجزاء كبيرة من الجزيرة العربية في دولة واحدة، عبر ربع قرن من البطولات والصبر والكفاح، أثمر، بتوفيق من الله، عن قطر واسع الأرجاء، ثابت الأركان، راسي الكيان.

وكان مما يذكر للملك عبد العزيز من البصائر المظفرة تفكيره بتوظيف خبرات وعقول عربية متنوعة التخصصات، لاستخلاص مواهبها وكفاياتها الذهنية، في زمن كانت الخبرات المحلية المثقفة تعد على الأصابع، فكان أن دمج تلك العقول ـ المحلية مع الخارجية ـ في «مطبخ» واحد «أسماه مجلس المستشارين» ، ينبثق عن الشعبة السياسية في بلاطه، مجلس اجتمع فيه السعودي والعراقي واللبناني والفلسطيني والليبي والمصري والسوري وغيرهم، ويأخذ من خلاصة آرائهم ما يعينه على اتخاذ قراراته السياسية في علاقاته مع الدول الأخرى، وهي تجربة ندر أن أخذ بها قائد آخر في بلد آخر من قبل.

لقد بدأ الملك عبد العزيز مشواره لتوحيد بلاده عام 1902، ولا بد أنه ومنذ أن انطلق من الكويت كان يستعين بوالده وبذوي الرأي من رجاله واخوته وأبناء عمومته، ولم يكن التعليم الحديث قد بدأ بعد في الكويت أو في نجد، لكنه كان يحظى بين حين وحين برجال من عشيرته كانوا قد تلقوا شيئاً من التعليم في الهند وتركيا ومصر، فكان يستعين بهم في علاقاته الخارجية، ومن أولئك على سبيل المثال أحد أبناء عمومته: الأمير أحمد بن ثنيان الذي كان قد تربى في استنبول وعرف بأنه أول مستشار سياسي للملك عبد العزيز، وأسهم في مناقشة أولى الاتفاقيات المبكرة مع بريطانيا.

في تلك الفترة، انضمت الأحساء مع نجد لتشكلا امارة موحدة، في وضع جديد تطلب صلات أوسع مع بريطانيا وتركيا، وكان الطبيب العراقي عبد الله سعيد الدملوجي، يعمل مع الجيش التركي أثناء احتلاله للاحساء، فانضم إلى الملك عبد العزيز، طبيباً في بادئ الأمر، ثم ما لبث أن صار ـ حسب ظني ـ أول مستشار سياسي من بلد عربي يلتحق بمعيته. لم يبق الدكتور الدملوجي أكثر من اثني عشر عاماً في خدمة البلاد، عاد بعدها الى موطنه الأصلي «العراق» وصار وزيراً لخارجيته، لكنه قام بأدوار سياسية كبيرة في المملكة العربية السعودية، كان من بينها تأسيس مديرية الشؤون الخارجية «نواة وزارة الخارجية» والتفاوض بشأن عقد العديد من الاتفاقيات السياسية.

ومع انضمام مملكة الحجاز إلى الدولة السعودية عام 1925م، التحق عدد أكبر من الشخصيات العربية إلى بلاط الملك عبد العزيز، كان في مقدمتهم «السياسي السوري» يوسف ياسين، و «رجل التعليم المصري» حافظ وهبة. وفي فترات لاحقة، التحق سياسيون ومثقفون آخرون، من أمثال الأديب الفلسطيني رشدي صالح ملحس، والمجاهد اللبناني فؤاد حمزة، والمهندس السوري خالد الحكيم، والزعيم الليبي بشير السعداوي، والزعيم العراقي رشيد عالي الكيلاني، والتاجر الليبي خالد القرقني، والطبيب السوري رشاد فرعون، والقانوني العراقي موفق الألوسي، وغيرهم.

هذا بالاضافة الى شخصيات مثقفة سعودية، من أمثال أخ الملك عبد العزيز الأمير عبد الله بن عبد الرحمن وابراهيم المعمر وحمزة غوث وخالد السديري، مما أوصل عدد المستشارين في كل الفترات الى رقم الثلاثين أو قريب منه.

لا يتسع المجال لتناول كل من هؤلاء على حدة، ولكن يمكن القول إن بعضهم امتدت بهم الخدمة الى ما بعد عهد الملك عبد العزيز «مثل يوسف ياسين و د. رشاد فرعون» ، وإن بعضا منهم تولى وظائف إدارية في الداخل أو دبلوماسية في الخارج مثل «الدملوجي ويوسف ياسين وموفق الألوسي وحافظ وهبة وفؤاد حمزة و د. رشاد فرعون» .

وتفاوتت مدة اقامة كل مستشار والاستعانة به، وكان البعض حضر الى المملكة في ظل ظروف سياسية معينة في بلده، ومن ابرز امثلة ذلك رشيد عالي الكيلاني الذي كان التجأ الى الرياض في اثر فشل ثورته المعروفة باسمه في العراق في الاربعينات.

وبحسب علمي فإن جميع من أتى المقال على ذكرهم قد توفوا وان الاكثرية منهم لم تخلف ذكريات مطبوعة، غير ان البعض ألف في تاريخ المملكة «مثل حافظ وهبة وفؤاد حمزة» . وان هناك شخصيات أخرى قدمت خدمات استشارية للدولة السعودية عقب توحيدها، ولم تُدرج في هذا المقال، ومن بينها: الأديب اللبناني أمين الريحاني والمؤرخ البريطاني فيلبي، والمستشرق النمساوي محمد أسد، لكن المقال يركز على نماذج من الخبراء والسياسيين الذين ثبت، وثائقيا، انهم اكتسبوا صفة المستشارين الرسميين في الديوان الملكي في عهد الملك عبد العزيز. والموضوع بحاجة الى المزيد من الاستقصاء وهو ما سأفعله قريبا انشاء الله.

* إعلامي وباحث سعودي