تقترب الذكرى السنوية السابعة والسبعون لتوحيد المملكة العربية السعودية، فتتداعى أمام الكاتب صور من تاريخها القديم والمعاصر، وقد تخيّل لي بهذه المناسبة، بعد زيارة قمت بها مؤخرا للأحساء، كم كان لبعض الحصون والقلاع الأثرية دور أساسي في توحيد الدولة السعودية المعاصرة الذي أعلن عام 1932.
وباستثناء عُمان ومدن الحجاز فإن معظم بلدات وسط الجزيرة العربية ومدنها عُرفت بقلاع محصّنة، لكنها مبنيّة من الطين المخمّر المخلوط بالتبن (قشور سنابل القمح)، وكان اقتحامها واستسلامها يعدّ الرمزية الأهم للانتصار، وقد سجل التاريخ المعاصر بعضا من فتوحات الملك عبد العزيز، التي بدأت من استسلام الحاميات أو التحايل عليها أو تسلقها، بأقل قدر من الخسائر، مشيرا في هذا الصدد إلى أن أقاليم عدة قد استقبلته بالترحيب والولاء.
سيركز هذا المقال الموجز على نماذج من تلك الحاميات الشهيرة التي غيّرت ـ باستسلامها ـ من مجرى التاريخ، وذلك إبان ملحمة توحيد البلاد التي كتبها المؤسس الملك عبد العزيز بدءا من عام 1902، وأثمرت تأسيس هذا الكيان الكبير، وإعلانه مملكة موحدة سنة 1932 كما سلف.
ويتفق معظم الباحثين والمؤرخين السعوديين الذين حاورتهم في هذا الشأن، ومنهم د. عبد الله العسكر ود. زاهر عثمان ود. حسن الهويمل والأستاذ عبد الرحمن الملا على أهمية النماذج الآتية التي يقتصر المقال على ذكرها مراعاة لدواعي الاختصار:
بداية، لعل قصر الحاكم في مدينة الرياض (العاصمة) المسمى قصر (المصمك) يعدّ الأول والأشهر بين تلك الحصون، ويتفق المؤرخون على أن هذا القصر قد بني إبان الدولة السعودية الثانية، لكنهم يختلفون حول تاريخ بنائه واسم من بناه، والراجح أنه قد بني في أواخر القرن التاسع عشر في عهد الإمام عبد الله بن فيصل بن تركي، أو في عهد محمد بن عبد الله بن رشيد الذي احتل الرياض في تلك الفترة، وأوكل بناءه إلى شخص يدعى عبد العزيز بن متعب بن نعام.
ولا يعرف المؤرخون معنى مؤكدا للاسم (المصمك)، إلا أن العلامة حمد الجاسر في كتابه (مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ ـ الطبعة الأولى 1966) يرجح أنه تحريف لكلمة (مُصمت) الدالة على سماكة البناء. وكان من الكتب التي تحدثت عن هذا القصر كتاب صدر عن هيئة تطوير الرياض عام 1993، وكتاب آخر عن قصر الحكم، ألّفه عبد الرحمن الرويشد عام 1992.
يقع القصر وسط الرياض، بعيدا بنحو ثلاثمائة متر من السور المحيط بالبلدة ذي البوابات الرئيسية الست، وقد اقتحم الملك عبد العزيز ورجاله السور في أول الليل ثم سيطروا على الحصن عند بزوغ شمس يوم 15/1/1902، بعد أن قتلوا عامل ابن رشيد في قصة معروفة. وقد أعيد ترميم القصر حديثا، وأصبح متحفا وطنيا يفتح للزوار، حيث يعدّ مع ما جاوره من مبانٍ أثرية وتراثية من أبرز المعالم التاريخية للمدينة القديمة (الديرة).
جدير بالذكر أنه يوجد إلى الغرب من المصمك قصر أقدم للحكم، لكنه ليس حصنا، وقد جُدد بناؤه على طراز نجدي جميل بمناسبة الذكرى المئوية لبداية تأسيس المملكة عام 1999، ولعله ما كان يعرف ـ إبان الدولة السعودية الأولى ـ باسم قصر دهام بن دوّاس، ويعرف الآن بقصر الحكم، وفيه مكتب أمير الرياض (العاصمة والمنطقة)، وتقام فيه المناسبات الوطنية العليا.
ثم يأتي في الأهمية، وعبر التسلسل الزمني لهذا المقال، قصر الإمارة في بريدة بالقصيم (المسمى قصر مهنّا، نسبة إلى أمير بريدة مهنّا الصالح أبا الخيل)، وهو القصر الذي استسلم لجيش الملك عبد العزيز عام 1908، وذلك بعد أن تمكن من طرد فلول الأتراك من القصيم، ومن الانتصار على الخصم القوي أمير حائل عبد العزيز بن رشيد في معركة فاصلة تسمى روضة مهنّا في الحادي عشر من شهر أبريل 1906، وهي تبعد نحو 25 كم شمال شرقي بريدة بالقصيم.
يختلف هذا الحصن عن سابقه (المصمك) في أن قصر بريدة يكوّن جزءا من السور الشرقي المحيط بالبلدة، وهو يطل جنوبا على ساحة (الجردة) الشهيرة، وشرقا على شعيب الخبيب (تصغير خبّ) ونفوده.
ويذكر أن هذا القصر المنيع الشاهق البناء (من الطين) كان قد بني في الغالب أواخر القرن التاسع عشر أيضا على أنقاض قلعة مشرفة قديمة، وقد استخدمه جميع ولاة الملك عبد العزيز الذين تعاقبوا على الإمارة حتى منتصف الستينات، وتناول المؤرخان إبراهيم العبيد ومحمد العبودي في مؤلفاتهما تاريخ هذا القصر وتطور بنائه.
ثم تمثلت المرحلة الثالثة المهمة تاريخيا في النشاط السياسي والعسكري للملك عبد العزيز في اتجاهه نحو الأحساء، وذلك بعد توطيد الحكم في وسط الجزيرة، إذ كان هدفه تخليص الأحساء والقطيف من النفوذ العثماني، فتذكر الروايات الشفوية والتاريخية أنه كان على تواصل مع العديد من أعيان الأحساء لتسهيل دخوله، فكان أن تمكن جيشه عام 1913 من تسلّق سور الكوت، قصبة الأحساء التي بقي الكثير من معالمها وتراثها المعماري شاهدا على التاريخ القديم والمعاصر (والكوت لفظة برتغالية تدل على القلعة، وقصبة المدينة مقر الوالي فيها).
وإذا ذكرت أسوار الكوت لا بد من الإشارة إلى قصر إبراهيم الواقع في طرف الكوت، وهو حصن منيع واسع ـ وبداخله مسجد ـ بني على طراز أحسائي بديع بلمسات تركية، وهو الآن متحف تاريخي يحتفظ بكل ملامحه العمرانية والأثرية الأصيلة.
ويختلف الرواة الشعبيون أيضا حول تسمية بانيه وتاريخ بنائه، فمنهم من ينسبه إلى إبراهيم باشا بن محمد علي (المتوفى عام 1848) الذي غزا وسط الجزيرة العربية للقضاء على الدعوة الوهابية، لكنه لم يصل إلى الأحساء، وهو ما يضعف من هذا الرأي، بينما ينسبه آخرون ومنهم الشاعر خالد الفرج إلى القائد السعودي إبراهيم بن عفيصان الذي ناوأ الوجود التركي في تلك الفترة (1895)، ويعتقد الزركلي أن ابن عفيصان ربما كان جدّد البناء فقط.
لكن المؤرخ الأحسائي المعاصر عبد الرحمن الملاّ يجزم ـ من واقع وثائق الأوقاف ـ أن القصر بني في عهد الوالي العثماني (العربي الأصل) علي باشا اللاّوند البريكي، الذي ولي مقاطعة الأحساء في أواخر القرن العاشر الهجري، ويرجح أن اسم إبراهيم هذا يعود إلى اسم المسؤول المالي الذي أشرف على بنائه في ذلك العهد، وهذا الحصن على مناعته وحجمه لم يبد مقاومة تذكر، بعد أن أصبحت الكوت تحت السيطرة.
وعلى الرغم من أهمية حامية القطيف المطلة على ساحل الخليج العربي، والتي كانت تحتضن الحامية التركية، فإن أمر ترحيل قوتها لم يتطلب عناء كبيرا بعد فترة وجيزة من دخول الأحساء في الحكم السعودي.
جدير بالذكر أن هيئة السياحة والآثار السعودية تعمل على وضع آثار الأحساء هذه، بما فيها مسجد جواثا وجبل قارة، على قائمة التراث العالمي المعترف به لدى اليونسكو.
وعلى هذا المنوال يمكن سرد عدد آخر من القلاع والتحصينات المهمة الأخرى، التي كان لاستسلامها أثر كبير في تحقيق الدمج بين أجزاء المملكة، فنذكر منها حصون وقلاع حائل، التي فتحت أبوابها للحكم السعودي بعد استسلام الأمير محمد بن طلال الرشيد في صفر 1341هـ (1921م).
كانت مدينة حائل محاطة بسور ضخم له أربع بوابات رئيسية، أما قصورها التاريخية فيذكر من أهمها قصر برزان، الحصن الشهير الذي أسس في عهد أمراء حائل الأسبقين من آل علي، ثم استكمل في عهد أمرائها من آل الرشيد، يليه في الأهمية حصن غيرف، ثم يضاف إليهما قصر القشلة الذي بناه الأمير السعودي عبد العزيز بن مساعد، هذا القصر الذي بقي في وسط المدينة متحفا معماريا يستقبل الزوار، وشاهدا على التراث العمراني للمنطقة، وقد كتب عن سور حائل وقلاعها عدد من الرحالة الذين زاروا المنطقة عبر التاريخ.
كما يأتي في سياق هذه القائمة ـ وفق رأي د. عبد الله العسكر ـ حصن بلدة حَرْمَلَة، القريبة من أبها، وهي بلدة حصينة، تقع ـ كما يقول الزركلي ـ في جبل صعب المرتقى، كان التجأ إليها الأمير حسن آل عايض آخر أمراء عسير، فأرسل الملك عبد العزيز جيشا بقيادة نجله الأمير (الملك) فيصل الذي فتحها عنوة، ووطّد الحكم السعودي في إقليم عسير وقاعدته أبها، ثم عاد إلى الرياض (أوائل 1923م).
ومن التحصينات التي يمكن ذكرها في هذا السياق أسوار المدينة المنورة وقلاعها التي استسلمت لنجل الملك عبد العزيز (الأمير محمد) في العشرين من جمادى الأولى سنة 1344 (1925م)، بعد خروج بقايا الجيش الهاشمي.
وكذا حاميات مدينة جدة التي استسلمت للملك عبد العزيز بتنازل الشريف علي بن الحسين عن حكم جدة وخروجه منها في السابع عشر من ديسمبر 1925م.
* باحث وإعلامي سعودي.