موجز تجربتي الإعلامية في الذكرى الخمسين لإنشاء وزارة الإعلام


لا بدّ في البداية من الشكوى إليكم، ممن استبدل «الذي هو أدنى بالذي هو خير» فبدلاً من خيار الأخذ باقتراحي للحديث عن سيرة عالم جليل نشأ في إقليم السرّ المجاور، يصرّ ناديكم على استضافتي للحديث عن تجربة متواضعة، لا أظن أن في استحضارها كبيرَ فائدة، ولقد كنت وما أزال، أقف موقف التحفّظ أمام دعوات الحديث عن الذكريات الذاتيّة فضلاً عن تدوينها، وعن رواية التجارب الشخصية في مجال الإعلام أو التعليم العالي أو الشورى، وهي المجالات الثلاثة التي تقاسَمَـت بالتعادل حياتي العملية، وذلك اقتناعاً بأن ما مررت به من محطّات ومواقف لا تقارن بتجارب الكبار، ولا تتماهى مع ذكريات الأساتذة المبدعين.

ومن هنا لا يسعني أمام إصراركم إلا توجيه الحديث في المحاور التالية بعيداً عن الشخصنة قدر الإمكان، مستعيداً ما ورد في الأثر «اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي، وَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمْ، اللَّهمّ اجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ، وَلا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ».

البداية ؛ في الإذاعة السعودية بجدة:

كان محدثكم في مطلع عام 1383 هـ (1963م) طالباً منتسباً في السنة الثالثة بجامعة الملك سعود، ومنتظماً في السنة الأخيرة في كليّة اللغة العربية (إحدى نواتي جامعة الإمام في الرياض) ينتظر التعيين معلّماً في أحد المعاهد المنتشرة في أنحاء البلاد، إذا ببرقيّة ترد من وزارة الإعلام – التي كانت تحوّلت للتوّ من المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر إلى وزارة – تطلب ترشيح اثنين من أوائل الخرّيجين في تخصّـص اللغة العربية للانضمام إلى الإذاعة، وما كان محدثكم يدري أن الاستجابة لتلك الدعوة – الصدفة، ستنقله إلى عالم فسيح من الفنون وهو الذي خرج من بيئة لا تعرف إلا طرفاً منها، وأنها ستفتح له مجال الإعلام من أوسع أبوابه، بحيث يُكمل تخصّصه فيه، وإن ظلّت اللغة العربية حِليةَ كل المهن والمجالس والتخصّصات.

بدأ إعلاميّاً بسيطاً في الإذاعة السعودية بجدة، يتقاذفه زملاؤه السابقون، تارةً في التدريب غير الممنهج على يد منير شمّاء أو عزيز ضياء، وأخرى في التقديم مع محمد الشعلان وعبدالكريم نيازي، وثالثة في الإعداد مع محمد صبيحي، الذي يجلجل صوته في دعاء السفر على الخطوط السعودية، وكان محدثكم يحظى بدعم وزير الإعلام (جميل الحجيلان)، وبعطف مدير عام الإذاعة (عباس غزّاوي).

وفي جدة أيضاً، عرفت – مختلطاً مع القليل منهم بسبب حداثة السن – بعضاً من كبار الأدباء، أمثال محمد حسين زيدان وحسن عوّاد ومحمد علي مغربي وأبا تراب الظاهري وأحمد إبراهيم الغزاوي وطاهر زمخشري وأحمد قنديل وحمزة شحاتة، الذين كانوا يتردّدون على الإذاعة ويشاركون في برامجها، إعداداً وأداءً وضيوفاً.

وبعد ما انقضى نصف العام الدراسي اللاحق – والزملاء لا يعلمون أن هاجساً خاصاً يشغل بال المحاضر للعودة إلى الرياض كي يواصل دراسته في السنة الثالثة في جامعة الملك سعود – تحايل عليهم بإبداء الرغبة في الانتقال للمشاركة في التحضير لافتتاح الإذاعة في الرياض التي تجري الاستعدادات فيها من أجل ذلك على قدم وساق، فانطلت الحجة عليهم، وإن لم تكن محل ارتياح وزير الإعلام الذي قابله في الرياض مبدياً له شيئاً من الامتعاض.

في إذاعة الرياض :

كانت الإذاعة في الرياض تحت التأسيس، تشغل – بالإيجار – مبنيين متجاورين في شارع الفرزدق بالملز، فيهما استوديوهان للبث وللإنتاج، ومكتبةٌ عامرةٌ بالتسجيلات الصوتيّة المنقول معظمها من الإذاعة في جدة، وكان مكتب الوزير و رقابة المطبوعات يحتلّان أجزاءً من المبنيين، بينما بقي ديوان الوزارة في جدة حيث كانت منذ تأسيسها، ولم تنتقل إلى الرياض إلا بعد مضيّ أربعة أعوام من إحداث الوزارة.

جدير بالذكر، أن الإذاعة السعودية – التي تحدثتُ في هذا النادي قبل خمسة عشر عاماً (1418هـ/ 1998م) بمناسبة الذكرى الخمسين لافتتاحها – كانت قد استقرّت هي الأخرى في جدة منذ إنشائها في أواخر عام 1368 هـ (1949م)، باستثناء أربع سنوات انتقلت خلالها إلى مكة المكرّمة، وكانت لا تُسمع في بقية أنحاء الوطن إلا بشقّ الأنفس، وهو ما جعل المواطنين في مدينة الرياض وما حولها يحتفون بإذاعة بدائية قام بتشغيلها لمدة عامين مواطن من بريدة (هو عبدالله بن سليمان العويّد المشهور بطامي)، ثمّ قيّض الله للإذاعة السعوديّة في عام 1382هـ (1962م) يداً أحضرت مرسلة تمّ تركيبها غرب الرياض، وصارت تعيد إرسال البرامج الإذاعية من جدة، حتى افتتحت الإذاعة من الرياض في غرّة شهر رمضان المبارك سنة 1384 هـ (3 يناير 1965م).

كان معظم الإذاعيين في تلك الفترة في كلٍ من الرياض وجدة يُكلّفون بمهام إدارية مثل مدير التنسيق، ومدير المنوّعات، ومدير الأحاديث، ومدير التنفيذ، ومراقب عام البرامج، وكانت قائمة الإعلاميين تشمل كفايات سعودية وعربية، وقد اختير خميس سويدان للإشراف على برامج الإذاعة الجديدة في الرياض، وعُين له مساعدان هما محمد الشعلان ومحدّثكم الذي كان في الثانية والعشرين من عمره، وكانت مهمة إدارة التنسيق التي تصدر الخارطة البرامجية اليومية مما يقع تحت إشرافه، وفي تلك الفترة كانت الإذاعة تبثّ على ثلاث فترات؛ صباحاً وظهراً ومساءً، كما انضمّت إليها بعد حين مرسلةٌ جديدة افتتحت في مدينة الدمام، فصار نداء الإذاعة – لسنوات – يحمل اسم (إذاعة المملكة العربية السعودية من الرياض والدمام) وقد استفادت إذاعة الرياض من تجربة شقيقتها في جدة وسارت على غرارها، خاصة وأن مرجعية الإدارة كانت واحدة. وبالرغم من قصر الخبرة الإذاعية لدى محدثكم، فإن وزير الإعلام لم يكن ليُخفي انحيازه لفكرة دفعه نحو خوض غمار التجربة بكل أبعادها، فأوفده في تلك الفترة إلى الإسكندرية لتغطية مؤتمر القمة العربي الثاني الذي رأسه الأمير فيصل قبل شهرين من تولّيه مقاليد الحكم، ونقلت فيه الإذاعة لأول مرة في تاريخها على الهواء كلمة الفيصل، وامتدّت المهمة نفسُها لتغطية مؤتمر عدم الانحياز في القاهرة بمشاركة الفيصل أيضاً بعد المهمة الأولى بشهر واحد، استثمره المحاضر لشراء بعض التسجيلات المصرية بعد قطيعة سياسية بدأت بعد ثورة اليمن، ثم كان للمحاضر دورٌ في تسجيل حديث الملك فيصل بمناسبة تولّيه الحكم (خطاب العرش) وإيصاله بطائرة خاصة إلى جدة لإذاعته مساء ذلك اليوم (27/6/1384 هـ الموافق 1/11/1964م).

افتتاح التليفزيــون :

لم تمض بضعة أشهر على افتتاح الإذاعة في العاصمة، حتى اقترب موعد تدشين محطتي التليفزيون في كل من الرياض وجدة، فوقع اختيار الوزارة على زميل من إذاعة جدة (هو محمد حيدر مشيّخ) وعلى محدثكم، ليكونا أول مديرين لبرامج التليفزيون، وأوفدتهما قبل بدء البث إلى ثلاث دول عربية للاطلاع على التنظيمات المعمول بها فيها، وكان تليفزيون أرامكو في الظهران والأحساء وما حولهما قد بدأ بثّه باللغتين العربية والإنجليزية في عام 1377هـ (1957م) إلا أنه لم يكن طرفاً في تأسيس التليفزيون الحكومي.

بدأت محطتا تليفزيون الرياض وجدة في 19/3/1385هـ (17/7/ 1965م) بدأتا بدايةً برامجية متواضعة، بمرافق مسبقة الصنع عالية الجودة، وصار يبث بين المغرب والعشاء، ثم ما لبث بعد نحو ستة أشهر أن تدرّج بمدّ فترة البثّ إلى نحو أربع ساعات يتوقّف أثناءها لصلاة العشاء، وذلك إلى أن ارتبطت محطاته بعد عشرة أعوام (1395هـ/1975م) بشبكة واحدة ضمت محطاته الرئيسية الخمس (المدينة المنورة والرياض وجدة والدمام والقصيم) أما مكة المكرمة والطائف فكانتا تُخدمان بمحطتي تقوية بدون استوديوهات، وقد تم تنفيذ جميع تلك المحطات بموجب عقد أُبرم مع الحكومة الأمريكية (سلاح المهندسين الأمريكي) مع بدء المشروع.

بدأت علاقة محدثكم مع انطلاقة التليفزيون مديراً لبرامج محطة الرياض، ثم صار بعد أشهر مشرفاً إداريّاً وبرامجيّاً عليها، وقد شارك في تقديم العديد من برامجه، ومن بينها برنامج «حديث الأصدقاء» الذي كان أول البرامج المحليّة الإنتاج، واستضاف كبار المسؤولين في حينه، ومع الأسف أن التليفزيون قد أضاع كل تسجيلات ذلك البرنامج الرائد، كما تعاون مع الشاعر المعروف محمد الفهد العيسى لعرض الفنون الشعبية من سائر أنحاء البلاد بعد تسجيلها والتعليق عليها.

امتاز التليفزيون السعودي في تلك السنوات بشباب سعوديين من جميع المناطق تدرّبوا في معهد الآر . سي . أية

في نيويورك، يساندهم عدد من الكفايات العربية عالية التأهيل، وحظي بميزانية مشاعة مع الإذاعة استأثر بمعظمها، واستفاد فنيّاً في ذلك العام من ظهور اختراع تسجيل الفيديو (المرئي) الذي لا يتطلّب التحميض، وكسب تعاون مجموعة من المشايخ الأفاضل الذين لم يضنّوا عليه بوقتهم ومشورتهم ومشاركاتهم من أمثال محمد بن جبير وعبدالله بن منيع وعبدالعزيز المسند، وكانت موجة الاعتراض على دخول التليفزيون في المجتمع السعودي أقل من أن تذكر أمام موجة القبول الشعبي العارم القنوع بتواضع برامجه آنذاك.

الابتعــــــاث :

مضى عامان بعد افتتاح التليفزيون، وكانت النفس تتطلّع لإكمال الدراسات العليا، يوازيها في الأهمية التمكّن من اللغة الإنجليزية التي يتطلّب العمل مع الأجانب في التليفزيون إجادتها، وكذا الاطلاع على أساليب العمل التليفزيوني في المحطات العالمية، فكان أن استجاب وزير الإعلام لذلك مدركاً صعوبة الظرف الذي يمرّ به تأسيس التليفزيون. وارتحلت ليلة زواجي لبدء البعثة بدراسة اللغة في ولاية أريزونا في صيف عام 1387هـ (1967م) مشار كاً واحدة من بعثات التليفزيون التي لم يتوقّف التليفزيون عن إيفادها، وكان شقيقي (عبدالله) الذي يجيد الإنجليزية من تدريبٍ سابق ضمن أفراد تلك البعثة.

وكانت حصيلة ذلك الابتعاث الذي دام أربعة أعوام مُكثّفة، دراسةَ اللغة في أحد معاهد أريزونا، والحصولَ على درجة الماجستير من جامعة كانساس، والدكتوراه من جامعة ولاية أوهايو، وقد أكرمنا الله في أثنائها بولادة ابننا «الراحل» طلال وابنتنا الكبرى (رشا) وكان وزير الإعلام (جميل الحجيلان) انتقل في العام الأخير من البعثة إلى وزارة الصحة، وعُيّن (إبراهيم العنقري) خلفاً له وزيراً للإعلام.

المديرية العامة للتليفزيون :

بعودة محدثكم في صيف عام 1391 هـ (1971م) صدر قرار تعيينه مديراً عاماً للتليفزيون، وكان المنصب يُشغل بالتكليف منذ انتقال عباس غزاوي المدير العام للإذاعة والتليفزيون إلى وزارة الخارجية عام 1386هـ (1966م).

كان من أبرز التحدّيات التي واجهت المحاضر في عمله الجديد بعد تشكيل الوحدات الإدارية في المديرية العامة للتليفزيون، هي محاولة الارتقاء بمضمون البرامج التلفزيونية التي كانت قد وصلت إلى مستويات متدنّية، وتنظيم التنسيق بين المحطات الخمس لضمان وصول البرامج المنتجة في كل محطة إلى المحطات الأخرى بالطائرات أو بالسيارات، وفي الوقت نفسه العمل على التوسّع الأفقي لمحطات التليفزيون، حيث بقي التليفزيون حتى ذلك العام محصوراً في خمس مناطق منذ افتتاح محطة الدمام عام 1390هـ (1970م).

ومما يسجّل لتلك الفترة، أن الابتعاث والإيفاد للتدريب لم يتوقّفا، فلقد بلغ عدد المبتعثين للدراسات العليا والموفدين للتدريب ربعَ مجموع منسوبي التليفزيون البالغ ستمئة موظّفاً عام 1397هـ (1977م) في جميع المحطات، كما أجريت بالتعاقد مع شركة أمريكية دراسة لتطوير التليفزيون تبدأ فنّياً بتحويله إلى الألوان، وتضع تصوّراً لإنشاء شبكة متكاملة من المحطات في بقية المناطق والمحافظات يتمّ ربطها بالمايكرويف والأقمار الصناعية، وقد صدر التوجيه السامي – في إثر زيارة الملك فيصل لفرنسا في عهد جورج بومبيدو – بالتعاقد مع الحكومة الفرنسية لتنفيذ بنود تلك الخطة بكل تفاصيلها، على أن تُعطى الأولويّة في التغطية القادمة للمناطق الجنوبية انطلاقاً من أبها.

ويسجّل لتلك المرحلة بدء التعاون الإعلامي الخليجي بكل أشكاله الحاضرة، التي انطلقت من مؤتمرات تنسيق تليفزيونية، كما شهد منتصف التسعينات الهجرية (منتصف السبعينات الميلادية) انضمام المملكة إلى اتحاد إذاعات الدول العربية (1395هـ/1975م) وعقد العشرات من المؤتمرات الإعلامية العربية والإقليمية والإسلامية، وكان المحاضر شريكاً في كل ما ذكر من أنشطة.

أما على صعيد إعداد البرامج وتقديمها، فقد اختص المحاضر في تلك الفترة بثلاثة برامج هي على التوالي: حوار مفتوح، ومؤتمر صحفي، وشريط الذكريات .

وبالرغم من قسوة الظروف المحيطة بالبث الإذاعي والتليفزيوني في تلك الحقبة السياسية، فإنها كانت غنيّة بالذكريات الجميلة التي بقيت في أذهان كل من عايشها من الرؤساء والمرؤوسين.

في قسم الإعلام :

تأسس أول قسم للدراسات الإعلامية في جامعة الملك سعود بدءاً من العام الدراسي 1392هـ (1972م)، وقد أسهم المحاضر فيه بتدريس مواد تاريخ الإعلام السعودي، والإعلام الدولي، والإدارة والتخطيط في الإعلام، وبقيت العلاقة مع القسم قائمة طيلة العقود اللاحقة، وبخاصة بعد انتقال المحاضر إلى وزارة التعليم العالي عام 1397هـ (1977م)، وصار كتابه : الإعلام في المملكة العربية السعودية ؛ دراسة وصفية توثيقية تحليلية، الصادر عام 1420 هـ (2000م) أحد الكتب المرجعيّة في القسم.

لم يكن المحاضر ممن عشق العمل التدريسي أو تفاعل معه، وقد ساعده عدم الانتماء الرسمي لعضوية هيئة التدريس في الجامعة لسنّ طريقته الخاصة في التعامل مع الطلاّب، الذين وجدوا في ذلك درباً للتناغم مع أستاذهم، مما أبقى ذكريات لا تمّحي معهم إلى اليوم.

المجلس الأعلى للإعلام

ومجلس الشورى :

بدأت نواة المجلس الأعلى للإعلام في عام 1387هـ (1967م) في شكل لجنة لتخطيط السياسة الإعلامية في عهد وزير الإعلام جميل الحجيلان ثم تعثّرت، ولم يتسنّ للمحاضر أن يعيش تلك البداية التي تزامنت مع ابتعاثه، وقد توقّف العمل في تلك اللجنة كليّةً في عهد إبراهيم العنقري.

ثم عاود د. محمد عبده يماني تفعيل تلك اللجنة، وتقدم باقتراح لتحويلها إلى مجلس أعلى للإعلام، وصدرت لائحة تجعل من المجلس هيئة إشرافية تنظيمية، ثم صدر توجيه في عام 1401هـ (1981م) بتشكيله برئاسة الأمير نايف بن عبدالعزيز (بوصفه رجل دولة)، وهو التشكيل الذي انضمّ فيه المحاضر إلى عضويّته، مستمرّاً معه أربعة وعشرين عاماً إلى حين إلغاء المجلس عام 1424هـ (2003 م) .

وكما ذكر في البداية، كان المجلس سلطةً تنظيميةً إشرافية له الصفة النهائيّة في قرا راته، وإن شاب أعماله شيءٌ من التباعد بين جلساته، إلا أن المجلس عالج هذه المسألة بتفويض رئيسه بالبتِّ في الأمور المستعجلة، وشكّل لجنةً تحضيريةً تعقد اجتماعاتها أسبوعيّاً لمساعدة الرئيس في اتخاذ القرارات العاجلة التي لا تحتمل الانتظار، وكان من بين إنجازات المجلس صياغة السياسة الإعلامية، وتحديث نظامي المطبوعات والمؤسّسات الصحفية ووضع استراتيجيّة للإعلام الخارجي.

ومع أن المجلس الأعلى للإعلام، كان يقف حكماً محايداً بين الإعلاميين وبين وزارة الإعلام، وأن صلته بوزارة الداخليّة كانت إداريّة بحتةً، إلا أن السمعة لحقت به من كونه قريب الصلة من وزارة الداخلية ظنّاً من البعض أنه أحد أذرعتها الأمنية، والواقع أن المجلس، وكما أشير، اتّخذ الكثير من المواقف إلى جانب المتظلّم، وكان كثير من تلك الإجراءات يتمّ من قبل رئيسه عندما ينفرد بقرار لا يحتمل التأجيل، والمرجوّ أن تتاح الفرصة لمحاضركم لإعداد دراسة تتناول مسيرة المجلس وتستعرض القضايا التي مرّت عليه في الأعوام الأربعة والعشرين التي شارك فيها في عضويّته

وفي تقدير المحاضر، أن قرار الإلغاء لم يحظ بدراسة إعلامية وقانونية مستفيضة وذلك لسببين:

الأول : أن الإلغاء أحدث فراغًا نظاميّاً، حيث كان المجلس بمثابة الحَكَم المتخصّص عند تنازع أي جهة أو فرد مع السلطة التنفيذية (وزارة الإعلام).

والثاني : أن الاتجاه الحديث في العالم، هو في إلغاء وزارات الإعلام والاكتفاء بجهة رقابية تنظيمية تكون في الغالب في شكل مجلس للإعلام.

وكان الأولََى أن يُنظرَ في تعزيز المجلس بالكفايات المهنية للقيام بدور فاعل في هذين الاتجاهين، والتنسيق والتكامل مع مجلس الشورى.

وكان المحاضر قد انضمّ إلى عضويّة مجلس الشورى عند أول تشكيل له في عام 1414هـ (1993م) ولدورات ثلاث، ونظراً لوجود لجان متخصّصة فيه لعدد من النشاطات، ومن بينها لجنة خاصة بالشؤون الإعلامية والتعليمية والثقافية، فقد ارتأت لجنة الإصلاح الإداري إعادة النظر في عدد من المجالس العليا ومن بينها المجلس الأعلى للإعلام الذي ألغي – كما سلف – بعد عشرة أعوام من قيام مجلس الشورى.

والواقع أن مشاركة المحاضر في لجنة الشؤون الإعلامية والثقافية في الدورة الأولى من عمل المجلس، تعدّ امتداداً لتجربته الإعلامية، حيث كانت اللجنة تنظر في مشروعات التنظيمات الإعلامية التي ستقدّم لاحقاً إلى مجلس الوزراء لإصدارها نهائيّاً في شكل أنظمة، وبحكم عضويّة المحاضر في آن واحد في كل من المجلس الأعلى للإعلام ومجلس الشورى، فقد شارك في دراسة بعض الأنظمة في المجلسين، ومنها نظاما المطبوعات والمؤسّـسات الصحفيّة، في صورة من صور الازدواجية التي أشير إليها قبل قليل. غير أن المحاضر فضّل – عندما انقسمت اللجنة إلى لجنتين للإعلام وللتعليم – أن ينضمّ للجنة التعليم، وذلك انسجاماً مع حساسيّة التزامه بموضوعية دراسة كل ما يتصل بالشؤون الإعلامية في المجلس.

الكتابة الصحفية :

لم يتّخذ محاضركم الكتابة الصحفيّة حرفةً أصليّةً له في يوم من الأيام، ومع ذلك مرّت فترات انتظم فيها، وبخاصّةٍ بعد عام 1400هـ (1980م) كاتباً أسبوعيّاً في جريدتين محليّتين هما «الجزيرة» ثم «عكاظ»، كما دأب على الكتابة في أوقات شبه منتظمة في صحيفة «الحياة» ثم في صحيفة «الشرق الأوسط»، وشكّلت المقالات المنشورة صحفيّاً بالعشرات، مادة خمسة في الأقل من مؤلّفات المحاضر، حيث كان ينشر المقالات صحفيّاً قبل ضمّها إلى أحد الكتب ذات الصلة بموضوعها.

ومع أن الشأن العام لا يغيب عن البال لتتعامل معه بعض المقالات من حين لآخر، فإنه يمكن القول بوجه عام، إن الغالبية العظمى من المقالات المنشورة صحفيّاً، كانت تصبّ بالدرجة الأولى في مجال السير والتراجم والثقافة والإعلام.

التأليف والتوثيق :

وكما هو الشأن مع الكتابة الصحفية المنتظمة، لم يدُر في الذهن قبل عام 1412 هـ (1992م) أن يتجه المحاضر للتأليف، بل لقد بقيت رسالتا الماجستير والدكتوراه طيّ الأدراج منذ التخرّج، حتى حان وقت توافرت فيه عشرات المقالات التي يجمعها خيط الإعلام، فصدرت في ذلك العام في كتاب «نحو إعلام أفضل» حظي مؤلّفه بقبول مُرضٍ من القرّاء شجّع على الدخول إلى ميدان التأليف الذي وصل عدديّاً إلى رقم الثلاثين، كما صار في الأعوام القليلة الماضية يطبع محاضراته، رغبةً في توثيقها وتوسيع انتشارها.

ومثلما كان كتاب «نحو إعلام أفضل» منطلق التأليف في مجال التوثيق والدراسات الإعلامية، كان كتاب السفير الراحل محمد الحمد الشبيلي (أبو سليمان) المدخلَ إلى التأليف في محال السّير والتراجم، كما كان كتاب «الإعلام في المملكة العربية السعودية : دراسة وصفيّة وتاريخية وتحليلية»، الصادر عام 1420 هـ (2000م) المرجعَ كما سلف، والمطلوب الأكثر من قبل دارسي الإعلام.

ولقد أدى الانشغال بالمحاضرات في المناسبات والمواسم الثق افية إلى تأخير إنجاز مشروعين قيد التنفيذ، وهما الجزء الثاني من كتاب التراجم «أعلام بلا إعلام»، وكتاب من أربعة أجزاء بعنوان «موسوعة وثائق الإعلام» وهو مشروع مرتقب يعرض ويشرح خزينة الوثائق الخاصة التي تمّ جمعها من مختلف المصادر منذ مرحلة الدراسات العليا.

لقد أصدر المحاضر وغيره عدداً من المؤلّفات التي تؤرّخ للإعلام في المملكة العربية السعودية، إلا أن هناك محطات لم يجر توثيقها، ومنها على سبيل المثال تحليل تأثير الإعلام الرسمي على الرأي العام، وقياس قبوله في أوساط المجتمع، والتحوّلات التي أحدثها.

العمل الصحفي التنظيمي والإشرافي:

ومرّ المحاضر، ضمن مسيرته الإعلامية بتجربتين مهمّتين لا بدّ من التنويه عنهما، ليس لطول مدّتهما فحسب، ولكن لعمق الدروس المستفادة منهما.

أما الأولى: فكانت المرور بمجلس إدارة مؤسسة الجزيرة الصحفية مدّة ستّ سنوات، تمكّن خلالها من الغوص في تنظيمها الداخلي وسبر أسلوب العمل فيها، وكان أول رئيس لمجلس إدارة مؤسسة صحفية يخصّص أياماً في الأسبوع للحضور الفعلي فيها، و يتعرّف على بيئة المؤسّسات الصحفيّة من الداخل… أما التجربة الثانية، فقد تمثّلت في نوع مختلف بل ونادرٍ من العمل الصحفي، وهو الاشتراك في أول مجلس أمناء يتمّ تشكيله في دُور الصحافة العربية (في الشركة السعودية للأبحاث والنشر التي تصدر جريدة الشرق الأوسط ومطبوعات أخرى) وكانت فكرة مجلس الأمناء عُرفت في كبريات الصحف الأوروبية بخاصة، للفصل بين جهازي التحرير وسلطة الإدارة بما يضمن استقلالية العمل التحريري وإبعاده عن هيمنة رأس المال والمحافظة على أهداف الوقف والمُوصين، وهي تجربة فريدة تكمل في هذا الصيف عامها الخامس مكتسبةً نصيبها من التأصيل والمأسسة في الشركة نفسها، ومن التأمّل فيها في الصحافة العربيّة.

وبعــــــد ؛

مرّ المحاضر من خلال مسيرته مع الإعلام في خمسين عاماً – من تاريخ وزارة الإعلام والإذاعة والتليفزيون – بمراحل متنوّعة عميقة التأثير عليه، بدأت بسنوات من العمل التنفيذي -الذي تخلّلته البعثة الدراسية – واستغرق الانهماك في العمل والدراسة جلّ الوقت على حساب الأسرة والقراءة وحطام الدنيا.

وأما الثانية، فاتسمت بالعمل الإعلامي ذي الصبغة التنظيمية (التشريعية) من خلال عضويّة المجلس الأعلى للإعلام ومجلس الشورى، ومن خلال الصبغة التعليمية في قسم الإعلام، وهي المرحلة التي عمل فيها المحاضر وكيلاً لوزارة التعليم العالي، وفيها استعاد أسرته، وبدأ بتكوين نفسه، ودخل فيها مرحلة الإنتاج الفكري المطبوع.

وأما الحقبة الثالثة الحالية، فاقتصرت على المشاركة التطوّعية الفاعلة في المنتديات الثقافية ومواصلة النشر والتأليف والتوثيق.

ولقد عاش المحاضر عمره الإعلامي، ضمن جيل وَفّق بين الجرأة و المحافظة، وقارب بين المهنية وشح البيئة الإبداعيّة، وراعى في أدائه الظروف السياسيّة الداخليّة والخارجيّة الدقيقة، فاستثمر الإمكانات الفنية المحدودة في أداءٍ بلغ ذروته الذهبيّة في الثمانينات والتسعينات الهجرية (الستينات والسبعينات الميلادية) ومع ذلك فمن الصعب على من يكون طرفاً في العملية الإعلامية آنذاك أن يحكم اليوم على التجربة حكماً موضوعيّاً شفّافاً محايداً، لكن الحقيقة التي لا تغيب عن الذهن أن لكل فترة زمنيّة رجالَها وظروفَها وإخفاقاتها ونجاحاتها.

وعوداً على بدء، يمرُّ – بمرور هذا العام – نصف قرنٍ على نشأة وزارة الإعلام، وعلى تأسيس الإذاعة في العاصمة، وعلى افتتاح التلفزيون، في ذكرى «ذهبية» تستحق المزيد من التوثيق من الجامعات ومراكز البحوث، ومن الدارسين، والمؤمل أن يتسع وقت المداخلات لإضافة ما يمكن روايته من معلومات وتوضيحات، أو ذكرياتٍ ذات أهميّةٍ موضوعيّة.

القيت في فرع نادي القصيم الأدبي بمحافظة المذنب الخميس 09/05/2013

من أرشيف أ. محمد بن خنين – أبو داليا