نطاسيّ الدبلوماسية والإعلام


والنطاسي، وفق القاموس، الحاذق، تعبير استعملته عام 1417هـ عند الحديث عن علاّمة الجزيرة العربية (حمد الجاسر) في حفل افتتاح مبنى هذه المؤسسة وكان الحجيلان حاضراً رئيساً على منصته.

ولو قلت عن جميل الحجيلان إنه والدي الروحي، أو إنه أستاذي أو رئيسي أو صديقي الأعز، فلربما شاركه آخرون، لكنه، في الواقع، مزيج من كل تلك العلائق، ويكفي أن علاقتي به منذ عام 1383هـ لم تتزحزح.

كان الحجيلان قد تخرج من قانون جامعة القاهرة، وعمل فترة في وزارة الخارجية في أواخر عهد الملك عبدالعزيز، ثم التحق في أول عمل دبلوماسي له في السفارة السعودية بطهران (أيام السفير حمزة غوث)، ومنها انتقل للعمل في السفارة السعودية بكراتشي (أيام السفير محمد الحمد الشبيلي)، وفي عام 1380هـ (1960م) نودي للعمل مديراً عاماً للإذاعة والصحافة والنشر (خلفاً وسلفاً لعبدالله بلخير)، إذ لم يطل للحجيلان المكث في هذا المنصب أكثر من عشرة أشهر، عاد بعدها كل منهما إلى عمله.

ذهب بعدها سفيراً في الكويت فور استقلالها في ذلك العام (1381هـ – 1961م) ليعود بعد نحو عام ونصف إلى الإعلام وزيراً له، فسجل في الحالتين كونه أول سفير سعودي لدى الكويت، وأول سفير عربي معتمد فيها، وأول وزير للإعلام (كان بلخير وزير دولة لشؤون الإذاعة والصحافة والنشر، ولم يكن يحمل لقب وزير الإعلام).

أمضى في وزارة الإعلام ثماني سنوات، شهدت في عهده وسائل الإعلام (وبخاصة الإذاعة والتلفزيون والإعلام الخارجي) عصوراً ذهبية لم تتكرر إبداعاتها، وكان من أبرز إنجازاته تأسيس إذاعة الرياض، وبناء مرسلات إذاعية عملاقة، وإطلاق عدد من الإذاعات بلغات أجنبية، وإنشاء أول سبع محطات تلفزيونية، وتحويل صحافة الأفراد السائدة آنذاك إلى صحافة المؤسسات المعاصرة.

ثم خلفه إبراهيم العنقري في منصبه، بعد أن ظل لعدة أشهر عام 1390هـ يجمع بين وزارتي الصحة (أصيلاً) والإعلام (بالنيابة).

جاء تعيينه في وزارة الصحة مغايراً لما وقر في ذهن الكثيرين من ضرورة أن يكون على سدّتها (تكنوقراط) متخصص في حقل الطب لكن المجتمع سرعان ما أدرك بعد تلك التجربة أن منصب الوزير، هو – بالدرجة الأولى – سياسي إداري، إذ نجح في تسيير هذا الجهاز عبر قدراته الذهنية والإدارية، مما جعلها تتكرر عند تعيين د. غازي القصيبي بعد أعوام.

لن أطيل استعراض القراءة في سيرته، فلقد عادت به الأقدار للعمل الدبلوماسي، سفيراً في ألمانيا (مدة عامين) ثم في فرنسا (عشرين عاماً)، ولتمتد تجربته بعد ذلك في العمل السياسي عندما اختير أميناً عاماً لمجلس التعاون الخليجي (لفترتين).

ومع أنه ترجّل عن العمل الإداري والسياسي والإعلامي، فإنه زاد من امتطاء المطارحة الفكرية والثقافية والاجتماعية، واقترب هو وحرمُه أكثر من تلمّس المشاركة في أعمال البر والمشروعات الخيريّة المتعددة، بما عوّضهما عن فترات التنقل والغربة بين السفارات والبلدان.

ما قد لا يعرفه بعض القراء، أن للشيخ جميل الحجيلان محاولات شعرية قديمة، أحتفظ منها بقصيدة عن فلسطين تضمنها الكتاب الذي وثق مشاركة الجيش والمتطوعين السعوديين في فلسطين عام 1948م، يقول في مطلعها:

يا هزار الصباح ردد ندائي

وارو للشرق محنتي وبلائي

والكتاب ألّفه صالح جمال حريري، وأعادت الدارة طبعه مصوراً.

وكان أبو عماد يحرر – تحت اسم مستعار – بعض المقالات السياسية التي كانت تنشر في الصحف السعودية إبان عمله وزيراً للإعلام (وذلك في ذروة الخلاف مع الرئيس جمال عبدالناصر في منتصف الثمانينيات الهجرية)، وربما يكون بعضها ظهر في كتابة: الدولة والثورة الصادر عام 1387هـ (1967م) عن الدار السعودية للنشر بجدة.

وأستطيع أن أبشر القارئ الكريم، أنّ أبا عماد يعكف الآن على إصدار مذكّراته، وهو عمل أجزم بإذن الله، أنه سيأتي مطابقاً لتوقعاتنا، في مستوى قلم صاحبه فصاحةً، وجرأته إفصاحاً.

دلفت إلى مكتبه في وزارة الإعلام بجدة، صبيحة يوم في منتصف عام 1383هـ (1963م) في أول لقاء جمعني به، ولمّا يكن قد مضى على تعيينه بضعة أشهر، في حين كنت للتوّ قد فرغت من دراستي الجامعية الأولى، جاءت بي إلى العمل الإعلامي رغبة منه – عبر عباس غزاوي – لاقتناص الأوائل من خريجي الآداب.

وبالرغم من ضعف مداركي المعرفية، وفقر البيئة الإبداعية التي نشأت فيها، إلاّ أنني لا أتردّد في الإفصاح بأنه قد صنعني على عينه، فما انفك يدفع بي وثوقاً في بداياتي الإذاعية، مروراً باقتحام ميدان الإعلام التلفزيوني، وانتهاءً ببعثة الدراسات العليا، فلولاه بعد الله، ما كان لي أن أصير شيئاً مذكوراً في فن الإعلام وعلومه، وإذا كان لي من دافع لتدوين تجربتي الإعلامية، فسيكون الهدف – في المقام الأول – ذكر أهل الفضل على شخصي في وزارتي الإعلام والتعليم العالي وفي مجلس الشورى، ولرواية مواقف الإسناد الإداري والمعنوي التي تلقّيتها ممن كان على أهرامها.

والواقع أنك حيثما نظرت إلى سيرة هذا الفارس الأبيّ، ستجد أنّ الفروسية تمثل أمامك، بما يجسِّد التفرُّد والتميُّز، فلقد مكّنته حصيلة دراساته المبكرة في سوريا ومصر على يد عمالقة الأدب والقانون (من أمثال علي الطنطاوي وعبدالرزاق السنهوري) من صقل مداركه ومعارفه، التي ما زال يغرف منها إلمامه الشعري، ونقده البلاغي، وحسّه القانوني والتنظيمي وقراءته النوعية.

ولقد كان الحجيلان خلال عمله الدبلوماسي، وبخاصة في فرنسا التي أمضى فيها – كما سلف – نحو عقدين، شعلة مضيئة من الحركة والفاعلية والاستباقية والشمولية، لا همّ له سوى إنجاح حضوره، والعناية بمخرجات سفارته، والتحاور مع مختلف التيارات، والدفع عن أمته وبلاده، بثقة العارف بالتاريخ، ومنطق المتمكن من الحجة والمقارعة والإقناع والاحتواء، وخطاب المفوّه، المتحدث بتفوّق بلغات ثلاث.

وجميل الحجيلان، أيكة أسرية وارفة الأفياء، يوزّع الحب في أركان ذويه، يحتضن الحفيد، ويتواضع للكبير، ويمثّل وحرمُه توأمةً روحيّة متكافئة الرؤية والرغبات.

أما كاتب هذه السطور، الذي يتعامل مع شيخه من خلال صورة ذلك اليافع المتحمّس الذي دلف إلى مكتبه ضحى ذات يوم قبل سبعة وأربعين عاماً، فإنه لا يتمنى إلاّ أن يسبغ الله على شيخه نعمة الصحة، وأن يحظى بتوثيق سيرة عملاق تربّع ذات عصر على عرش الإعلام السعودي، وما يزال يتربّع على عرش تاريخه..