من المسلم به، بادئ ذي بدء، ان التوجه نحو إطلاق نشرات اخبارية محترفة في الاذاعة أو في التلفزيون، لا يتأتى إلا بعد احراز النجاح في كل الحقول البرامجية الأخرى وتحقيق الامتياز فيها، وهو ما يفسر عدم تعجل كثير من الشبكات الاعلامية الجديدة، في خوض تجربة الاخبار بمفهومها الشامل (التغطيات والتقارير من مواقع الاحداث، والتحليلات والندوات والتعليقات) والتريث حتى تكتمل لديها المقومات اللازمة للبدء بمثل هذه المغامرة.
فالأخبار، المتكاملة العناصر، هي ذروة البرامج التلفزيونية والاذاعية وسنام العمل الابداعي فيها، فضلا عن كونها الأكثر في حساسيتها وتعقيداتها وفي متطلباتها اليومية التجهيزية والموضوعية، وهي الاحوج الى المرونة وسرعة الحركة والانفتاح.
والاخبار، ليست كبرامج المنوعات رغم التعقيدات الأخيرة، لأن المنوعات ـ في الغالب ـ مادة اسبوعية يمكن التحضير لها على مهل، أما الأخبار فإنها آلة تدور رحاها وتروسها على مدار الساعة واللحظة، تتطلب الحضور، وتستوجب الجرأة المسؤولة، واتخاذ القرار الفوري بتقديم الخبر الأهم على المهم، وللأحدث على المتقدم.
كما ان مسؤولية اتخاذ القرار في عملية الاخبار تكون لمن يمسك بمفاتيح البث المباشر وازاريره، فهو الذي يتولى السلطة التقديرية، وليس من يجلس على كرسي الادارة ثم يأوي الى منزله بعد انتهاء ساعة الدوام.
والنجاح في الاخبار، سواء كانت المحطة متنوعة البرامج (كتلفزيون أبوظبي) أو متخصصة فيها مثل الـ (بي بي سي BBC) هو الذي يكسب المحطة هويتها في اذهان المشاهدين، ويعزز من صورتها ومكانتها عند متابعيها. بعد مراحل وأعوام من الممارسة المهنية الراقية، والمصداقية العالية والاحتراف الرفيع.
لقد اصبح في مقدور المؤسسات الاعلامية، العامة والخاصة، ان تؤسس ما تشاء من قنوات التسلية والطرب والرياضة والازياء والتسوق والمناخ، لكنها تحسب ألف حساب قبل ان تدخل في ميدان الاخبار، وقبل ان تضمن اسباب النجاح فيه، والتغلب على صعوباته وشروطه، وتحمل تبعات الدخول والتورط فيه، فإذا ما استعرض المحلل عوامل نجاح القنوات الاخبارية المتخصصة وفي طليعتها: سي ان ان C.N.N وبي بي سي B.B.C وفوكس FOX، وكذا الجزيرة والعربية، لوجد انها لم تأت من فراغ، بل اتكأت على خبرات متراكمة سابقة في ميدان العمل الصحفي الاخباري، ومنحت استقلالية رقابية وسياسية شبه مطلقة، وتحللت من كل معوقات التعامل مع الخبر من الناحية الصحفية (الاعلامية).
لقد تفوقت تلك المحطات الاخبارية المتخصصة، بعد ان توافرت لها ثلاثة عوامل رئيسية هي: هامش الحرية الصحفية، والمرونة المالية والادارية والابداع الفني المهني (الاحتراف).
بلغت تلك المحطات درجة من الابداع الذي لا يمل المتابع مشاهده حتى لو تكررت، ابداع يشمل العرض والمضمون والاخراج، وسرعة الحركة وانتقال التغطية من موقع لآخر، ومن خبر الى خبر، ومن تعليق الى تعليق مع اعتمادها على ارشيف خبري وتوثيقي جيد، وخبرة عالية في الترجمة الفورية، وبراعة في سرعة اعداد التقارير حول كل ما يجد، ومهارة واسعة في الاتصال بالمعلقين والمشاركين في الرأي، فضلا عن قدرات مقدمي الاخبار وخلفياتهم عن تطور الاحداث.
لقد كانت قناتا ابوظبي وال بي سي L.B.C، اللتان حققتا ـ اخباريا ـ نجاحا متدرجا ملموسا في العامين الماضيين، وحيث ادركتا ان ليس في مقدورهما اطلاق قنوات اخبارية متخصصة، كانتا حصيفتين في قرارهما البدء بتطوير نشراتهما الاخبارية، وتآخت الثانية مع جريدة «الحياة» لتقديم عمل اخباري أكثر احترافا، دون القفز على المراحل المنطقية، مع ان هامش الحرية الاعلامية والمرونة الادارية متوافر في هذين النموذجين.
وقبل نحو شهرين، اطلق التلفزيون السعودي قناة متخصصة بالاخبار (الاخبارية)، مبشرا بأنها ستكون مختلفة، وستتلافى عيوب مدرسة الاخبار القائمة في قناته الأولى، ومع ان من المبكر الحكم على القناة الجديدة، التي يؤمل منها ـ في الأقل ـ ان تحرك الركود الاخباري في وسائل الاعلام الرسمية، وتشيع ثقافة التجديد في الفكر الخبري الصحفي الذي طالما اشتكى منه متابعو التلفزيون، الا ان ثلاثة استفسارات بدهية تبرز أمام مستقبل هذه الخطوة الجديدة:
1 ـ فهل ستستطيع التحرر فعلا من سلبيات السياسة الاخبارية التقليدية المعمول بها، والتي تسببت في تذمر المشاهد وانصرافه، مما لا يختلف التلفزيون السعودي فيها عن غيره من المحطات الرسمية العربية?
2 ـ واذا كانت هذه القناة الجديدة (الاخبارية) ستنجح في اتباع منهج مهني جديد ومغاير، فلماذا لم يبدأ به في القناة الأولى أولا?
3 ـ وطالما ان قناة (العربية) قد انطلقت برأس مال سعودي وطني فلماذا تبقى خارج الحدود، خاصة بعد ان تجاوز التلفزيون حواجز مشكلة ظهور المرأة على شاشة اخبارية?
لقد أصبح المشاهد العربي، مع تعدد القنوات المتخصصة بالأخبار، جيدها وضعيفها، أمام قنوات متشابهة في أسلوبها، تخاطب المشاهد العربي مخاطبة الذات للذات، دون ان تنجح في اطلاق قناة واحدة متميزة تخاطب العالم الخارجي بلغاته وفكره.
كما اصبحت محطات مكررة، تتنافس على شراء المواد الوثائقية المعلبة التي تملأ بها الفراغات بين نشراتها الاخبارية.
إنها محطات تتزاحم على رأس كل ساعة لاقتناص المشاهد العربي، بصيغ برامجية متجانسة، ومشاركين تتكرر اسماؤهم في عملية قد تحرق وتضيّع الجميع.
* إعلامي سعودي