مع انتشار وسائل الإعلام الوطنية في معظم دول العالم في الستينيات الميلادية، برزت الحاجة إلى وجود سياسات وطنية للإعلام وذلك على غرار ما صدر في حقول الثقافة والتعليم وغيرها.
ونشطت اليونسكو، بحكم مسؤوليتها في مجال الثقافة والإعلام، في حث الدول على إصدار تلك السياسات الاعلامية المدوّنة، وبادرت إلى عقد مؤتمرات عالمية وندوات إقليمية، تهدف إلى مقارنة ما يصدره كل بلد وشرحه وتبادل المعلومات بشأنه.
وانطلقت أهمية اصدار تلك السياسات المكتوبة، في مجال الإعلام بخاصة، من حاجة المنفّذين والمخطّطين إلى ما يوضح الأهداف وينير الدروب لهم، ويساعدهم على تلمّس طريقهم عند الإعداد والإنتاج والعرض، وتجنيبهم أسباب الزلل والأخطاء، ويعرّفهم بحدود الاجتهاد عند تسيير دفة أخطر وسيلة توجيهية يمتلكها الإنسان وتدخل إلى خصوصيات الاسرة، وتقتحم حواجز المنازل، وتتداخل بل وتتقدم على كل المؤثرات النفسية والاجتماعية والتربوية والعقلية.
كان مجلس الإعلام، هو الأقرب للقيام بهذه المسؤولية، فلقد تشكّل في عام 1387ه في شكل لجنة للتخطيط الإعلامي لكنه تحول إلى مجلس أعلى للإعلام في عام 1396ه، ثم أعيد تشكيله سنة 1401ه برئاسة سمو وزير الداخلية وعضوية عدد من المسؤولين ذوي العلاقة بالأمن الفكري والاجتماعي، وعدد من المتخصصين، مع أكثرية من التربويين والمفكرين.
ولم يمض عام واحد، حتى أكمل المجلس صياغة مشروع السياسة الإعلامية، التي أقرها مجلس الوزراء في 20/10/1402ه، وهي على غرار السياسة التعليمية، وثيقة نظرية تتكون من تمهيد ومن ثلاثين مادة تتناول مختلف الجوانب المهنية والفكرية والاجتماعية والوطنية لنشاط الإعلام.
فأوضحت المقدمة أسس الإعلام وأهدافه، وركزت ثلاث مواد منها على التوجهات الدينية للإعلام، كما أكدت أربع منها على الانتماء الوطني، وعنت اربع أخرى بالأسرة ومكوّناتها وهكذا.
لكن المهم بالنسبة لموضوع هذه الندوة، ان السياسة الإعلامية، قد وعت مسؤوليتها التربوية والثقافية، فخصصت ربع موادها لتفصيل العلاقة الوثيقة بين الاعلام والتربية، بما يؤكد الترابط والتلاحم بين أهدافهما وأغراضهما ومرتكزاتهما.
وكما حصل مع السياسة التعليمية، التي صدرت في مطلع التسعينيات الهجرية، جاءت السياسة الإعلامية، وثيقة جيدة الصياغة، عميقة المعاني والمضامين، مهنية الطرح والأفكار، توضح المقاصد العمومية، لكنها بالرغم من مرور عشرين عاماً على صدورها لم تترجم بعدُ إلى خطط عمل أو لوائح تنفيذية، ولم تأخذ بعد طريقها نحو التنفيذ الكامل.
لقد ركزت المادة الثالثة عشرة على سبيل المثال على أهمية اجراء الدراسات والبحوث الإعلامية، ونادت المادة الرابعة عشرة بتلبية احتياجات شريحة المثقفين ثقافة عالية بإنتاج برامج رفيعة المستوى تناسب اذواقهم، ونصّت المادة الخامسة عشرة على الارتقاء بمستوى المادة الإعلامية والارتفاع بأداء الرقابة، واهتمت المادة السادسة عشرة بمكافحة الأمية على أسس تربوية علمية، وفصّلت المواد الثلاث اللاحقة، وهي أطول مواد السياسة الإعلامية، مسؤولية الإعلام نحو قضايا الكتاب والفصحى وتعليم اللغة العربية ودعم النهضة العلمية وتشجيع الباحثين والعلماء والمفكرين ورعاية المواهب وعقد الندوات الفكرية وتشجيع دور النشر وإحياء التراث.
***
ومنذ أن صدرت السياسة الإعلامية، حظيت باهتمام الدارسين، وعُقدت من أجلها عدة ندوات، كان من أبرزها: ندوة مكتب التربية العربي لدول الخليج (1402ه) وندوة المجلس الأعلى للإعلام وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (1404ه) كما كانت محلاً لبعض الرسائل الجامعية.
ومن المعلوم أن السياسة الإعلامية، تعنى بالدرجة الأولى بمهنة الإعلام: فلسفةً ومبادئ وأهدافاً وأغراضاً، وإنما تجيء صلتها بالتربية والتعليم من كونهما بعض أهداف الإعلام وأغراضه، وترتبط جميعاً الإعلام والتربية والتعليم بصياغة شخصية الفرد وتكوين مفاهيم المجتمع وتوجيه فكر الإنسان وتمتلك حرية الدخول في حياة النشء وتشكيل توجهاته.
ومما يزيد في مسؤولية الإعلام والتربية وترابطهما في مجتمعنا أن الدولة تشرف عليهما، تسخّرهما لخدمة الصالح العام، ولبناء المجتمع ذهنياً ومسلكياً، ومن هنا تأتي الدعوة إلى التكامل والتناغم والانسجام بين العمل التربوي والعمل الإعلامي في قالب واحد واتجاه متجانس، فالمشكلة عامة ومشتركة، لا يحكمها سياسة واحدة أو تنظيم واحد.
وإذا كانت هذه الدعوة قد أُطلقت قبل عشرين عاماً عند صدور السياسة الإعلامية فإن الدعوة تكون اليوم أكثر إلحاحاً، مع تعرّض النشء لمؤثرات خارجية وداخلية متنوعة، وهو ما جعل المجلس الأعلى للإعلام يبادر نحو تطويرها وتحديثها.
لقد عبّر المتخصصون في التوجيه والتربية رجالاً ونساءً وكذلك المتخصصون في مجال الأمن الاجتماعي، عن قلقهم من سطوة وسائل الإعلام وقوة تأثيرها وقبولها عند الناس، بما قد يفوق ما لدى المدرسة من جذب وتجديد وإمتاع, ومن هنا حقّ لتلك الجهات أن تعبّر عن قلقها وحرصها على أن لا تهدم وسائل الإعلام في المساء ما قد تبنيه دور التربية والتعليم في الصباح، ونجد كذلك من حق وسائل الإعلام أن تطالب أجهزة التربية بما تحتاج إليه منها من تعاون ومشاركة وتجديد وإمداد بالكفاءات وجودة نوعية.
إن من حق المجتمع ان يتوقع من وسائل الإعلام أن تلتزم بما نصت عليه المادة الأولى في السياسة الإعلامية، من التمسك بالإسلام في كل ما يصدر عنه وأن تستبعد كل ما يناقض شريعة الله.
ومن حق المجتمع أن ينتظر من الإعلاميين والإعلاميات أن يكونوا أيضاً رسل تربية، وأنهم شركاء في توجيه السلوك من خلال جهودهم الإعلامية المؤثّرة والمتمّمة، وأن القوة التي يقومون على تسييرها هي سلاح ذو حدّين، يمكن أن تستخدم، بما لها من تأثير، نحو الفضيلة والخير والرشاد، تحقيقاً لما أوصت به المادة الثامنة من السياسة الإعلامية.
ومن حق المجتمع أن يطالب وسائل الإعلام، وهي تنفرد بالطفل قبل التحاقه بالمدرسة، أن تراقب مسؤوليتها وأمانتها في حسن توجيهه، ودقة اختيار ما يعرض له، وما يقدم إليه، وان لها وظيفةً مكملة لدور المنزل والمدرسة، وأن عليها أن تولي برامج الأطفال الترفيهية ما تستحقه من جهد واهتمام، وأن تقيمها على أسس تربوية علمية مدروسة، وذلك تنفيذاً لما تضمنته المادة التاسعة من السياسة الإعلامية.
واسمحوا لي بعد هذا، أن أقتبس مثلاً، ما أوردته المادة العاشرة حول المرأة حيث قالت:
مع التسليم بأن النساء شقائق الرجال، فإن وسائل الإعلام تلحظ في عمق الفطرة الخاصة بالمرأة، والوظيفة التي أناطها الله بها، وتعمل على أن تخصها ببرامج تعينها على أداء وظائفها الملائمة لفطرتها في المجتمع .
ثم تقول في مادتها الحادية عشرة:
يرعى الإعلام السعودي الشباب رعاية خاصة تنبثق من الإدراك الواعي للمرحلة الخطرة التي يمرون بها ابتداءً من سن المراهقة وحتى بلوغ سن الرشد .
لقد سبق لمحدثكم في كتابات سابقة أن أثبت أن تأثير وسائل الإعلام أبلغ وأعمق وأشمل وأبعد من تأثير الجامعة، وبالتالي فإن من المسلّم به حسن اختيار القائمين عليها، تماماً كما تعتني الجهات التعليمية بحسن انتقاء الأساتذة والمعلمين، رغم أن تأثيرهم قد لا يتعدى طلاب الفصول.
إننا ندرك بأن للإعلام أغراضاً متعددة وعليه مسؤوليات تتراوح بين التثقيف والتوجيه والترفيه والإخبار، وأنه يتعرض لمنافسات حادة قد تُخرج من الساحة كلّ ما لا يجاريها، لكنني أتصور أن المسؤولية الاجتماعية الملقاة على أجهزة التربية والإعلام في هذه البلاد تفرض عليها أن تجعل مصلحة الأمة فوق كل اعتبار، وأنه مع ذلك يمكن التوفيق بين تلك المسؤوليات دون التضحية بالمسلّمات والاعتبارات المهنية.
إن مما يبشر بالخير، أن التقنيات الحديثة والأفكار المتطورة قد استطاعت في كثير من الدول أن تحوّل كثيرا من المواد التعليمية والارشادية إلى مواد جاذبة ومشوّقة، وتمكّنت من إقامة قنوات إذاعية وتلفزيونية متخصصة في مختلف الأغراض التعليمية والتثقيفية والتربوية، مما لاحظه الجميع في السنوات الأخيرة عبر القنوات الفضائية وأنماط الإنتاج الإعلامي.
إنني أدعو كل الإخوة المخططين والمنفذين في وسائل الإعلام أن يستحضروا أمامهم مواد السياسة الإعلامية، ويتخذوا منها دليلاً ومرشداً، والعمل على نشرها وإشاعتها في أوساط المهنيين للاستفادة من مضامينها ومعطياتها.
واشكر الرئاسة العامة لتعليم البنات على دعوتي للمشاركة بهذه الخواطر المتواضعة حول السياسة الإعلامية، وعلى تخصيص حيّز من الندوة لهذا الموضوع، لأن من شأن ذلك أن يُبقي تلك السياسة محلاً للتفكير والنقاش المتصل والاستنباط والتقويم المستمرين.
فهي مهما بلغت من الجودة وقت صدورها، تبقى نصوصاً قابلة للتطوير، وأفكاراً تمثل حداً أدنى من الغايات والاهداف، ومن شأن التعاون بين الإعلامي والتربوي أن يسدد ما فيها من قصور.
والمرجو أن تكون هذه الندوة نواة للقاء أوسع وأشمل يتأمل في تطبيقات السياسة الإعلامية من منظور تعليم المرأة الذي تطوّر في العقدين الماضيين تطوراً يحبّذ إسهام المرأة في إثراء مضامينها الأسرية والتربوية.
ومازلت أذكر أول ندوة مصغرة عُقدت قبل ثلاثين عاماً في التلفزيون، عندما شاركت بضع تربويات سعوديات أثناءها في تقويم برامج الأطفال ومضامينها.
بارك الله في جهود المخلصين، والسلام عليكم ورحمة الله.
* ألقيت في ندوة اللقاء التربوي التي أقامتها الوكالة المساعدة للإشراف التربوي في الرئاسة العامة لتعليم البنات يوم 10/8/1421ه بالرياض.