عُقدت في الرياض في الاسبوع الماضي، وعلى مدار يومين، ندوةٌ غير مسبوقة في موضوعها في المملكة، حول الشورى والديموقراطية والحكم الرشيد.
وقد نظّمها مركز الملك فيصل للبحوث الاسلامية بالتعاون مع مركز دراسات الاسلام والديموقراطية في امريكا الشمالية.
ومن المعروف ان مصطلح «الحكم الرشيد Good Governance» قد شاع منذ عقدين من الزمان، ليكون النموذج البديل للمسميات، الذي يحقق مقاصد العدل والمساواة في مجتمعات المسلمين، وقد تبناه مؤتمر الدول الاسلامية الذي عقد في مكة المكرمة مؤخرا.
والواقع انه منذ ان بُعثت تجربة الشورى ـ بشكلها المؤسسي في المملكة العربية السعودية بالذات ـ قبل ثلاثة عشر عاما، والسجال لم يتوقف، ولا يبدو انه سينتهي، عن التفاضل او التكامل بين منهجي الشورى والديموقراطية في مجتمعات شرقية نامية مسلمة، وقد تكون قبليّة، كما في بعض البلدان العربية، ام ان بين المنهجين من التعارض ما يصعب معه الجمع بينها في نظام حكم واحد.
ان كاتب هذه الرؤية لا يدّعي التنظير في انظمة الحكم وأسسه، او الفقه وعلومه، فمعرفته لا تعدو ممارسة محدودة الزمن والابعاد في تجربة الشورى المجّددة في المملكة، مع حضور ندوات ومناقشات شوريّة وبرلمانية، داخل المملكة وخارجها، كتلك التي عُقدت مؤخرا في الرياض، وهي مداولات لا تنتهي في الغالب الى تطابق في وجهات النظر حول المنهجين.
ولعل من اهم ما حققته الشورى الحديثة في التجربة السعودية، انها بعد خفوتٍ دام اربعة عقود، استطاعت ان تفرض المصطلح بلفظه العربي (القرآني)، وان تعرّف الكثيرين من اصحاب الثقافات غير الاسلامية بمدلوله وتاريخه واصله التراثي، حتى حاز كثيرا من الاعتراف والقبول من بعض اهل تلك الثقافات التي لم تكن تعرف من قبل سوى نموذجين، الديموقراطية او الديكتاتورية.
وفي تقديري، ان كثيرا ممن يستخدمون مصطلح الديموقراطية في المجتمعات الاسلامية الملتزمة كمجتمع المملكة، لا يقصدون الاخذ بالمعنى الاكاديمي (القانوني والسياسي) للمصطلح، بقدر ما يقصدون المظهر التطبيقي له، والدليل على ذلك، ان الاصطلاح قد يجري احيانا على ألسنة بعض الاسلاميين انفسهم، مع عدم قناعتهم بالمدلول الحقيقي لاصل الكلمة، كما هو مطبق في المجتمعات الغربية.
ولو تأمل من ينادي بالأخذ بالديموقراطية وفق المعاني والمقاصد التي يدل عليها الاصطلاح، لاقتنع ان من شبه المتعذر تطبيقه على حالة البلدان الاسلامية الملتزمة بالشريعة منهجا ونظاما، وان الدول التي نهجت الديموقراطية في العالم الاسلامي هي الدول ذات الخط العلماني والتعددية الدينية (مثل ماليزيا واندونيسيا وتركيا ولبنان).
فالديموقراطية لا تُبنى على الشكل (المتمثل في البرلمان والاحزاب والانتخابات)، لكنها ترتكز على حقيقة واضحة، وهي ان الدستور الذي يتوافق عليه الناس او البرلمانيون المنتخبون هو اساس التشريع، وبالتالي فان الحكم للشعب، وهو صاحب السيادة، وهو سيصدر القرار، وهو المقرر الاول والاخير في شؤون حياته، وسواء تعارض القرار مع نصوص دينية او توافق معها مصادفةً، حتى لقد قيل ان كلَّ شيء في البرلمان قابلٌ للتغيير من خلال الاغلبية البرلمانية او عبر الاستفتاء الشعبي، الا ان يتحول الذكر الى انثى.
ولو كانت قضية الخلاف بين صيغتي الشورى والديموقراطية شكلية او مظهرية او اجرائية او قضية انتخابات او نحوها، فان اوجه الاتفاق بينهما اكثر من اوجه الاختلاف، والدليل على ذلك ان كثيرا من مجالس الشورى القائمة تتخذ الاجراءات نفسها التي تتخذها البرلمانات، بما في ذلك الاخذ برأي الاكثرية في التصويت وفي إلزامية القرارات، كما تقوم بالوظائف نفسها، (التشريع والمراقبة المالية ونحوهما).
من هنا، فإنني أظن ان بعض الدول التي تعتمد الاسلام مصدرا اساسيا او وحيدا للتشريع لا تأخذ من الديموقراطية الاّ بمظاهرها الشكلية، كما هو حاصل في الكويت مثلا، بدليل ان الاغلبية البرلمانية لا تحكم، وان مجلس الامة لا يقرر في أي شيء يتعارض مع الدين.
كما ان هناك من الدول ما يجمع بين الشكلين: الشوريّ (مجلس الشورى)، والديموقراطي (البرلمان او مجلس النواب او الشعب) كما هو حاصل في حالة مصر، ومع ذلك فهي لا تطبق المضمون الحقيقي للمنهجين، فالتناقض واضح بين المبدأين، ولا يمكن ان يلتقيا الا في الشكليات والاجراءات، اما في المضمون والمحتوى فان بينهما تباينا كليا كبيرا.
اما اذا اريد لبلد ان يُحكم وفق الشريعة، مصدرا وحيدا للقانون، فان متطلبات ذلك تتعارض مع الاسس التي تقوم عليها فلسفة الديموقراطية وفكرها، ويضرب شيخنا الراحل محمد بن جبير ـ رئيس مجلس الشورى السعودي السابق ـ بمسألة الغاء الحدود الشرعية مثالا على المقارنة، حيث يمكن الغاء حد القتل مثلا (او تغيير حد القصاص) في الانظمة الديموقراطية، بخلاف الانظمة الاسلامية الملتزمة.
واذا ما أتينا الى الشورى، الذي هو ركن من اركان نظام الحكم في الاسلام، متى ما طبّق شكلا ومضمونا، وان لم تحدد الشريعة معالمه، ولم يهتد المسلمون الى تقرير شكله واسلوبه عبر العصور، فانه ينبغي التوقف امامه عند سؤال كبير، سيظل يتردد على المسامع الى حين، وهو: هل تطبق الشورى على اصولها في الدول التي تأخذ بها؟
وبما ان النموذج الاكثر تعبيرا عن مفهوم الشورى الذي ورثناه من الخلافة الاسلامية (وهو مفهوم اهل الحل والعقد)، يظل النموذج شبه الوحيد، لكنه لم يجرّب حديثا ولم يبلور بعد على نطاق عملي، وما يزال ضبابيا، ولا اظن ان صيغة مجالس الشورى القائمة تمثل مفهومه وتحقق فلسفته ومقاصده.
لقد ظهرت فكرة «اهل الحل والعقد والاختيار» في فترة مبكرة من عهد الخلافة الراشدة، بدأت بعدد محدود، وكان الهدف منها عقد البيعة للخليفة الخلف، ثم اختفت مع ظهور انماط مختلفة من نظم الحكم في العهود الاسلامية اللاحقة.
لكن «عمومية» اللفظ بقيت في بطون كتب التاريخ وان خصصها بعض مفكري المسلمين بقليل من التعليقات التنظيرية في الكتب التي تناولت نظم الحكم في الاسلام.
ومن اجل ان نستعيد اعمال هذا المصطلح، ونستفيد منه في الجدل الدائر حول «الحكم الرشيد» وملامحه، فانه ينبغي تطوير المراد به، والاجتهاد في بلورة انماطه في ضوء تطور المجتمعات الاسلامية وخصوصياتها، وتحديد اسلوب الوصول الى تحقيقه بين التعيين والانتخاب، مع تحديد العدد الامثل لتكوينه وكيفية تمثيله الجهوي، اذا كان هذا الامر لازما.
ان هذه الرؤية لتدعو الى تأصيل هذا المصطلح، والنظر في كيفية بعثه، ليكون نموذجا يحتذى في خضم البحث من منهج وسطي بين خياري الشورى والديموقراطية، وليكون سندا امثل للامة في محاربة الفساد وتحقيق العدالة والمساواة في مجتمع الشورى (الحكم الرشيد).
كما تدعو، في الوقت نفسه، الى ان تتوافق المجامع الفقهية، وجهات الفتوى على (تأسيس) مدلول ولاية المرأة، والمدى الذي يمكن ان تصل اليه في مشاركتها السياسية وكيفية ممارستها لها وفق ظروف كل مجتمع.
وتدعو كذلك الى تحديد سقف الشورى الاسلامية وتوضيح ابعاد صلاحياتها، والبتّ في جدلية «الالزاميّة» في مقابل «الاعلاميّة» في النظام الشوريّ الاسلامي.
واخيرا، ان هذا المقال لا يقصد النيل من ايّ نظام، او تمجيد أي نمط، لكنه ينطلق من الشعور بأن مفهوم الشورى اصبح بحاجة الى تطوير في ابعاده وفي صلاحياته وفي اسلوب اختيار اعضائه، كما ينطلق من شعور ممثال بأن الديموقراطية هي منتج للبيئات التي ظهرت فيها، وان من الصعب تعميمها في المجتمعات المسلمة بالذات.
* اعلامي سعودي وعضو سابق في مجلس الشورى