كانت زيارة كثير من زائري مدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام – وكاتب هذه السطور واحد منهم – تنحصر فيما مضى في المسافة التي يقطعونها بين المسجد النبوي والفندق والمطار، وبقيت العلاقة مع هذا المكان المقدّس على هذا النحو طيلة العقود الماضية من أعمار الكثيرين، مع شعور عميق بالروحانية التي تضفيها قدسيّة المكان والتاريخ وأجواؤهما على كل من يصل إليه من مشارق الأرض ومغاربها.
لكن من أسعدته الظروف أن يقترب في العامين الماضيين من المسجد الشريف، بعد مرور ذلك الاحتفال البهيج الذي أقامته مدينة الرسول الأعظم لاختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية (2013) يحس أن ثوبًا قشيبًا جديدًا قد لبسته طيبة الطاهرة، وأن برامج كثيرة تحققت من تلك الوعود التي أُطلقت بمناسبة الاحتفال المذكور، لدرجة قد يشعر معها الزائر بأن شيئًا كبيرًا قد غيّر من الوجه الثقافي للمدينة الطاهرة، وهو ما أضفى على قدسيّتها التاريخية العريقة بُعدًا معرفيًّا يليق بمكانتها في العالم الإسلامي، ويتناسب مع ما ينتظره المسلم من مدينة تستمد هيبتها من كونها مأرز الإيمان، ومثوى قبر الرسول الكريم، ومشعل الهدى والنور، وعاصمة الإسلام الأولى.
هذه المدينة الكبيرة في عيون أهل الإسلام التي ترتاح فيها أفئدتهم وتطمئن فيها قلوبهم، ويختارونها للإقامة الوادعة، صارت اليوم تزخر بالمتاحف والمعارض ومراكز الدراسات والمعلومات والمكتبات والجامعات على بُعد خطوات من الحرم النبوي الشريف، مع أهل كرام يتسابقون إلى إقراء الضيف، وإسعاده في رحاب لا تكاد تسمع فيه لغوًا ولا تحس فيه صخبًا ولا نصبا.
ومنذ أن اختارتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، منذ عامين عاصمة للثقافة الإسلامية – وجادلناها في حينه أن المدينة المنورة أقدس من هذا الاختيار وأدوم، في مقال نشرته في هذه الصحيفة (12/ 3/ 2013) – تحوّلت طيبة الطاهرة منذ ذلك العام إلى ورش عمل لا تتوقف أدواتها لتحقيق البرامج الثقافية التي وعدت بها المناسبة، فأُقيم معرضان أنيقان في الجهة الشمالية من الحرم الشريف باسم «أسماء الله الحسنى» و«محمد رسول الله».
أما إذا كان لدى الزائر متّسع من الوقت، فإن زيارة للمتحف السياحي الكبير – الذي أقيم في مبنى سكة حديد الحجاز بميدان العنبرية، وهو الخط الذي أقيم بأموال المسلمين رابطًا تركيا بالحجاز عام 1908، ودمّره الإنجليز في أثناء الحرب العالمية الأولى – تُعدّ إضافة تاريخية أوسع للتعرف على تلك الحقبة من تاريخ المدينة الطاهرة وأنماطها المعمارية الأنيقة، وتجري في الوقت الحاضر جهود متتابعة لإعادة موضعة أم المكتبات في المدينة المنورة (مكتبة الملك عبد العزيز) التي جمعت فيها بعض المكتبات الوقفية ذات الصِّلة بمحيط الحرم الشريف، حيث ينتظر أن تكون درّة المشروعات الثقافية الجاري تنفيذها لتكون المدينة المقدسة بحق عاصمة الثقافة الإسلامية.
ذاتيًّا، أسهم مثقّفو المدينة المنورة وموسروها بكثير من الأفكار الثقافية الرائعة، فاستكمل عبد العزيز كعكي مشروعه الأنيق «متحف دار المدينة»، الذي يعرض فيه مجسّمات فريدة للتطوّر الحضري لمحيط المدينة المنورة، منذ أن كانت تسمى «يثرِب» قبل الإسلام، وحتى عهدها الحاضر، والمعرض من أجمل ما يُلخص تاريخ المدينة المنورة بالصوت والصورة والتجسيد لمن يتعجّل الإقامة فيها، وكان الكعكي فاز هذا العام بجائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية «نظير جهوده في دراسة التراث الحضاري للمدينة المنورة، لا سيما كتابه (معالم المدينة المنورة بين العمارة والتاريخ) بأجزائه المتعددة، خاصة الجزء السابع وعنوانه (النسيج العمراني القديم بالمدينة المنورة – الخصائص والمقومات)، حيث اتسم عمله بتوظيف التراث والعمل الميداني معًا، وعزز معلوماته بالصور القديمة والجديدة، والخرائط والأشكال التوضيحية. فأصبحت دراسته مرجعية في ميدانها».
وفي السياق الذاتي نفسه من الجهود الفردية، حوّل رجل الأعمال عبد المجيد الخريجي هوايته في جمع التراث الشعبي إلى متحف «للدراهم والدنانير والمقتنيات التراثية» متاح للجميع، وكان أصدر من قبل عددًا من الكتب التوثيقية المخدومة بطبعات أنيقة، واستمرّت المدينة المنورة تحوز قصب السبق في تأسيس المكتبات الخاصة الرائدة منذ أن عرفت عبر التاريخ مكتبة عارف حكمت التي يعود تاريخها إلى منتصف القرن التاسع عشر (1857) ثم تعددت بعدها المكتبات الخاصة الثرية بالمخطوطات والمفتوحة للباحثين، ومنها مكتبة حبيب محمود (المتوفّى سنة 2002)، وهي مكتبة عامة مجهزة بالصالات والتقنيات الحديثة تضم ما يزيد على 60 ألف كتاب ومخطوط، ومكتبة يوسف عبد الستار الميمني التي تحتوي على نحو 30 ألف عنوان يسعى صاحبها لتنميتها في الطريق لجعلها نموذجًا آخر للمكتبات الخاصة المفتوحة للدارسين تحت دوحة الرسول الكريم، كما يتوجّب الثناء على ما تقوم به مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي – ذات التمويل الوقفي الخاص – من عناية بتاريخ المدينتين المقدستين (مكة المكرمة والمدينة المنورة).
ولا تكتمل صورة ما تشهده المدينة المنورة من حراك علمي وثقافي وبحثي من دون التطرق إلى جهود جامعتيها، وإلى نشاط ناديها الثقافي، وإلى ما يقوم به مركزان بحثيّان مهمّان مهتمّان بدراسات التاريخ، وهما: مركز بحوث المدينة المنورة إلى جانب صنوه مركز بحوث مكة المكرمة، اللذين تشرف عليهما حاليًّا دارة الملك عبد العزيز، بعد أن كانا بدآ بجهود خاصة.
على صعيد المواصلات والجهود البلدية، صار للمدينة المنورة مطار دولي جديد يليق بحركة الملايين الذين يرتادونها كل عام، كما أنجزت وزارة النقل محطة القطارات الحديثة التي تربط مكة المكرمة بالمدينة المنورة، وحظيت المدينة بالكثير من المشروعات الترفيهية ذات الطابع التراثي، من أبرزها إعادة تجسيد أسواقها التاريخية المجاورة للحرم حول شارع العينية، التي أزالتها التوسعات المتكررة في العهد السعودي.
أما قلادة المشروعات العظيمة التي يجري تنفيذها حاليًّا مما لم تشهد المدينة المنورة مثيلاً لها في التاريخ، فإنها توسعة المسجد النبوي التي اكتسحت المساحات حوله بأضعاف حجمه الحالي، وبكل ما تعنيه عبارات التوسعة من معان وكلمات.