صلاح الزامل – جريدة الرياض 15 ديسمبر 2023م
رأيته مرتين عند الأديب حمد الحقيل في منزله، وعلمت من خلال نقاشه أنه تربطه معه علاقة وشيجة طويلة الأمد راسخة الجذور عميقة الصلة، فقد كان يزور الحقيل في منزله القديم بحي المربع الواقع شرق شارع الملك فيصل وشمال شارع الوشم حينما استقر الحقيل بالرياض 1388هـ، ومن هذا التاريخ وحمد يستقبل أصدقاءه ومحبي المعرفة والتاريخ والشعر والأدب من بعد صلاة العصر حتى قبيل المغرب، فكان الإداري والقيادي الماهر عبدالله بن سعد بن حسين من هؤلاء الذين يرتادون صالون الحقيل يومياً مستفيداً مما يطرح في هذا المنتدى من علوم وفنون وآداب وقصص، وهذا ما أخبرني به نجله خالد بن عبدالله بن حسين، حيث قال: «إنني أرافق والدي إلى مجلس حمد الحقيل حيث يريد والدي بذلك أن أتعلم وأستفيد من هذا الصالون الذي يُعد من أوائل الصوالين الأدبية بالعاصمة الرياض، وكان يحضره نخبة من الأدباء والرواة والكتاب والمؤرخين، واستمر أعواماً»، وفي هذه السطور نستعرض بعضاً من سيرة عبدالله بن حسين، وقد ترجم له وعرّف به عبدالكريم بن حمد الحقيل في كتابه (نبلاء سعوديين عرفتهم)، وهي ترجمة موجزة، لكنها مفيدة في حياته الوظيفية في الدولة منذ أن توظف حتى تقاعد.
وابن حسين من أوائل الموظفين في ديوان الخدمة المدينة، عاصر التحديثات في أنظمة التوظيف المدنية، والقرارات التي صدرت بشأنها، وهو مرجع لهذه الأنظمة والقوانين ويعرفها تمام المعرفة، وكان يتمتع بذاكرة جيدة حتى آخر أيام عمره.
وُلد عبدالله بن سعد بن حسين عام 1345هـ ببلدة رغبة من إقليم المحمل، وتعلم القراءة والكتابة والقرآن الكريم ببلدته، ولما بلغ تسعة أعوام رحل مع والده إلى الرياض، ولعل ذلك عام 1356هـ، وتم افتتاح معهد الرياض العلمي عام 1371هـ، وهو أول معهد يدرس العلوم الشرعية واللغة العربية على الطريقة النظامية الحديثة، فكان عبدالله بن حسين ممن سارع إلى الدراسة فيه ونال شهادة المعهد عام 1374هـ.
كاتب المفتي
في عام 1363هـ أصبح عبدالله بن حسين -رحمه الله- كاتباً عند سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم، وكان عمره آنذاك 18 عاماً، وأصبح من الكتاب القريبين عند سماحة المفتي وقريباً جداً منه، وفي هذه الرسالة الودية التي أرسلها سماحة المفتي إلى ابن حسين تعبّر عن مكانته وقدره ومضمون الرسالة هي الاطمئنان على صحته، حيث رحل إلى لبنان مستشفياً، فكانت هذه الرسالة التي يرجو فيها المفتي لشخصيتنا الشفاء من المرض الذي أصابه وهذا نص الرسالة: “من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم عبدالله بن سعد بن حسين -سلمه الله- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد وصلني كتابك وفهمت ما تضمنه من الأخبار عن صحتك، نرجو الله لك الشفاء والعافية، وأن يوفقنا وإياك إلى ما فيه خيري الدنيا والآخرة”.
رئاسة القضاء
إدارة الامتحانات
وفي عام 1378هـ انتقل عبدالله بن حسين -رحمه الله- إلى ديوان الموظفين الذي تغيّر مسماه إلى ديوان الخدمة المدنية، وكان مسمى وظيفته مدير إدارة الامتحانات والمحاكمات بالديوان، وهذه الإدارة تجري امتحانات للموظفين في حال الترقية أو التعيين، وتحدث خالد بن عبدالله بن حسين عن موقف لوالده قائلاً: “عندما تقدم د. عبدالرحمن الشبيلي بشهاداته إلى الإدارة وكان لتوه قد انتهى من بعثته خارج الوطن، فقال أحد الموظفين هذه أوراق الشبيلي سوف نجري له امتحاناً للغة الإنجليزية، فقال الوالد: هو أتى من أميركا ودرس اللغة، هو الذي سيمتحنك في اللغة الإنجليزية ولست أنت من تمتحنه”.
وقد عرف واشتهر عبدالله بن حسين في ديوان الخدمة المدنية بالرياض، ويضيف خالد بن عبدالله بن حسين أن والده كان مرناً مع من يتقدمون للامتحانات، ويحاول بقدر الاستطاعة أن يساعدهم، خاصةً في ذاك الزمن الذي كانت الأمية هي الغالبة وثقافة الأنظمة من القلة التي تعرفها، فكان عوناً لهم في حدود النظام.
موقف سيارة الأجرة
وروى خالد بن عبدالله بن حسين موقفاً عن والده قائلاً: “عندما سكنا في حي الملز قرب جامع الملز الأول شمال شارع جرير وشرق شارع الستين، وكان عمري آنذاك 12 عاماً، وكنت أنا والوالد وبعض إخواني في إحدى جوانب شارع جرير، فأوقف والدي سيارة أجرة، وقال له المكان المقصود للذهاب إليه أنا وإخواني وهو لم يركب معنا، وأعطاني عشرة ريالات، فلما وصلنا إلى المكان الذي نريده وهو منزل في شارع عسير، وقبل أن أنزل من سيارة الأجرة مددت يدي لأعطي صاحب سيارة الأجرة أجرته فقال لي: هذا أبوك الذي أعطاك عشرة ريالات وقال لي أوصلهم المكان الفلاني؟، قلت: نعم، فقال لي اذهب بحفظ الله، والدك ساعدني في ديوان الخدمة المدنية ولا يمكن أن آخذ أجرة منك”.
خصلة جليلة
وقال خالد بن عبدالله بن حسين: “إن والده كان لا يتردد في الشفاعة لمن قصده ولجأ إليه في أي موضوع في إحدى الدوائر الحكومية، فكان يلبس عباءته ويصطحب هذا الذي طلب منه الشفاعة ويدخلان على أي مسؤول في هذه الدائرة أو تلك، وكان معروفاً لدى المسؤولين، وهذه خصلة وشيمة جليلة وكبيرة في شخصيتنا، وكانت سائدة في ذاك الزمان لمن كانت لهم وجاهة رسمية أو مكانة اجتماعية، وكما قيل: إن زكاة الجاه الشفاعة والشفاعة أجرها جزيل وثوابها مضاعف، حيث يقول الله عز وجل في كتابه العظيم “مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا”، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “اشفعوا تؤجروا”، والمقصود بالشفاعة شفاعة الخير والمعروف، بحيث لا تسقط حق أحد أو تكون شفاعة في باطل أو في حد من حدود الله فهذه محرمة وهي كبيرة من كبائر الذنوب، وقصة أسامة بن زيد عندما شفع للمرأة المخزومية وقد سرقت عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأنكر عليه وقال له: “أتشفع في حد من حدود الله”، وكم من شفاعة حسنة وخير كانت سبباً في إعمار بيوت كادت أن تتلاشى وتزول، لهذا كان الذي يبادر بالشفاعات للناس محبوباً ومذكوراً بالخير دائماً ويبقى له ذكر طيب عند الآخرين في حياته وبعد مماته، ولو لم يكن من الشفاعة إلاّ دعوة صادقة خالصة من هذا المشفوع له لكفى بذلك، لكن مع الدعوة أجور لا يعلمها إلاّ الله، والله يضاعف لمن يشاء والشفاعات من الأعمال المتعدى نفعها للغير وكل عمل تعدى نفعه فهو أكمل أجراً، والشفاعات الحسنة هي من إدخال السرور على المشفوع لهم.
علاج لندن
وسافر عبدالله بن حسين -رحمه الله- في عام 1373هـ إلى لبنان، وهي أول رحلة له خارج الوطن، وكان يشتكي من بعض الأمراض، وفي التقرير الطبي الذي زود به نجل شخصيتنا أنه يعاني من عدة أمراض في الرئتين وفي الكبد، وشافاه الله فيما بعد، وظل محتفظاً بصحته طوال حياته وأصبح من المحافظين على الدوام على سلامة جسمه، وذكر خالد بن عبدالله بن حسين عن والده في إحدى سفراته إلى لندن قائلاً: “إن الوالد كان يهتم بصحته ويعمل فحوصات طبية دورية، وعندما عمل فحصاً طبياً عند طبيب بريطاني، طمأنه أن الفحوصات جيدة بالنسبة له، وسأل الوالد الطبيب: “كم تتوقع أن أعيش؟”، فقال له -وهو غير مسلم-: “يمكن أن تعيش خمسة وعشرين عاماً”، وبعد مرور ثلاثين عاماً سأل الوالد عن هذا الطبيب فقيل له: مات، والأعمار بيد الله عز وجل وقد عاش عبدالله بن حسين 99 عاماً، فهو من المعمرين -غفر الله له ورحمه-.
ذكريات العمر
وذكر عبدالله بن حسين المؤرخ إبراهيم الحسون في ذكرياته التي دوّنها عندما كان الحسون مستشفياً في لبنان، وهو من أصدقائه، وسرد ذكريات كثيرة ومحطات حياته ومشوار عمره ومسيرته الطويلة، فكان يكتب ويدون كل حدث وموقف رآه وشاهده، وفي إحدى الصور نرى الحسون مع ابن حسين، وهذه الرحلة كانت مدخلاً إلى المعرفة بأحوال وثقافة الشعوب، ومنها المنطلق لأن يسافر إلى أوروبا فيما بعد، وكان يجيد الإنجليزية، فكانت اللغة مفتاحاً له لبعض المناقشات مع أولئك الذين يلتقي بهم ويتعرف عليهم في تلك الأصقاع والبلدان، وهو شخصية محبة للنقاش في شتى نواحي العلم والمعرفة ويقول رأيه بصراحة وجرأة بدون مجاملة لأي أحد، وله فلسفة في الحياة وكلمات وعبارات تعبّر عن هذه الفلسفة، ويحب النقاش في المجالات العلمية، ولديه أسلوب تميز به في الإقناع بفكرته وطرحه، وهو قوي الحجة، وبديهته حاضرة، وسريع الجواب.
ووالد شخصيتنا هو سعد بن حسين، وهو من أوائل من فتح صرافة في مدينة الرياض، وقد منح رخصة من مؤسسة النقد العربي السعودي رقمها 51، وكان قد شارك مع الملك المؤسس بعدة معارك، وهو يجيد القراءة والكتابة، وكان محل الصرافين غرب قصر الحكم، وقد أدركت هذه البناية قبل التوسعة الجديدة لقصر الحكم وما حوله من أحياء وميادين.
ذاكرة قوية
وتولى عبدالله بن حسين -رحمه الله- أعلى منصب قيادي في ديوان الخدمة المدنية عام 1394هـ، حيث تعيّن مديراً عاماً بديوان الخدمة المدنية حتى تقاعد عام 1397هـ، وبعدها تعاقدت معه السفارة السعودية بالكويت حتى عام 1406هـ، وبذلك تكون خدمته في الدولة منذ عام 1363هـ حتى عام 1397هـ 33 عاماً، ومع فترة السفارة السعودية بالكويت 42 عاماً.