1- مدخل
** في أيام عملي الأولى بمعهد الإدارة طلب مني زميلي أن أنوبَ عنه في الفترة المسائية مرةً واحدةً لأشغل سكرتارية مكتب المدير العام ففعلت، ووعيتُ – خلال ثلاث ساعاتٍ خارجَ وقت الدوام- فاعليةَ الأداء؛ فليس على مكتب «معاليه» أوراقٌ وملفاتٌ متراكمة، والإشارة في التوجيه كافية، ولا معنى لسلامٍ وكلامٍ وسؤالٍ وجواب، وأضفتُها إلى تجربتي الثرية سكرتيرًا للمدير العام للبرامج الإعدادية فعلمتُ من الشكل ما أوحى بالمضمون؛ وأيقنتُ بعد عامٍ في أعمال السكرتارية أن دور مدير المكتب العرضُ المنظّم والمواعيدُ المنضبطة ونقلُ الرؤى الصاعدة والنازلة، وخدمةُ الناس؛ فلا تكلف ولا تزلف، ولا مظاهر ولا تمظهر.
** حدث هذا آخر عام 1978م ومعظم عام 1979م حيث تعينتُ معيدًا في معهد الإدارة بوظيفة «مساعد مدرب»، وتدرجتُ إلى مدرب فمحاضر فمدرس، ومن ثم أصبحتُ رئيس قسم فمديرًا، فمديرًا عامًا، وامتدَّ بي السلم الوظيفي، فانتقلت مما يعادل المرتبة السابعة حيث ابتدأت حتى الثالثة عشرة عام 1995م، ولو بقيتُ فيه أو وافقتُ على الانتقال إلى مؤسسة حكومية لازددت، لكنني غادرتُه إلى القطاع الأهلي مُعارًا فمتقاعدًا مبكرًا، ومثلما امتدَّ حضوري الشخصيُّ في المعهد عشرين عامًا فلم يغبْ – حتى اللحظة – حضوري الشعوريُّ، وإن لم أغشَ مقرَّه بعد عام 1998م إلا لِمامًا، ولا أدري عن واقعه الآن، وبالرغم من أنني التحقتُ بأعمالٍ قياديةٍ مُجزيةٍ أخرى فقد بقي صوتُ المعهد حيًا في أعماقي؛ محتفيًا بذكرياتٍ مورقةٍ لم تخلُ من معاناةٍ وتحديات.
2- حكاية أولى
** لم نرضَ بالنأي عن أصدقاء المعهد؛ ففكرْنا – بعضُ المعهداريين السابقين – في نهجٍ عمليٍ لاستعادة الذاكرة المُشوقة، واتفقنا على لقاءٍ سنويٍ غيرِ رسميٍ لجمعِ زملاء العمل الذين غادروا المعهد، ووضعنا له ميزانيةً ميسرةً تضمن استمراره، وتكونت من ذلك مناسبةٌ مضيئةٌ في شهر فبراير من كل عام تُستهلُّ بعد الظهر وتكتمل عند المغرب، وتزايد معدل المشاركين كل عام بعدد مغادري المعهد بالتقاعد أو الإعارة أو الانتقال، وقد بارك الفكرة معالي الدكتور محمد الطويل، واستضاف الاجتماع الأول.
** جرى اجتماع هذا العام، وهو الاجتماع «التاسع» – بعد توقف ثلاثة أعوام بسبب (كوفيد-19)- (السبت الأخير من شهر فبراير 2023م) أنيقًا بإِعداده، وضيئًا بأَعداده، ممتدًا بمُنسقه ولجنته، وشفافًا في استيعاب تاريخٍ وعينا بعضَه وجهلنا بعضَه، وأنِسنا هذه المرة ككلِّ مرة بلقاء أصفياءَ ربط بيننا بيتُ الخبرة الإداريُّ الأولُ الذي عشنا فيه وتتلمذنا عليه، ونعتزُّ بعمرٍ قضيناه داخله.
** تحدث أستاذنا إسحق الدقس مدير مركز اللغة الإنجليزية الأسبق عن عمله في المركز بين عامي 1960-1980م، وقارن الشباب الذين درسوا في المركز وقت إدارته وهم في أول عشريناتهم وبين من يراهم الآن وقد رسم الزمنُ معالمَه على ملامحهم فأخفى بعضَ نضارتهم، وكنتُ أحدَ من درَسوا اللغة حينها وتفرغت – مثل زملائي – تهيئةً للابتعاث، ولا أنسى أنني كنتُ أتهربُ من مواجهته بين المحاضرات متواريًا عن أخطائي إذ يُصرُّ على مخاطبتنا بالإنجليزية وأنا حديث عهد بها آنذاك، ولمزيد المعلومات فأستاذنا الدقس هو مؤلف كتاب (عهد الصِّبا في البادية) الذي صدر عام 1980م عن دار تهامة ضمن سلسلة الكتاب العربي السعودي بترجمة الأستاذ عزيز ضياء -رحمه الله، وقد ألَّفه الدقس بالإنجليزية عام 1965م.
3- حكاية ثانية
** برفقة الدكتور عبدالرحمن الشبيلي -رحمه الله- ووَفق طلبه زرنا معًا معالي الشيخ محمد العلي أبا الخيل -حفظه الله- ودار الحديث حول تدوين سيرته الوظيفية «الرسمية والخاصة» الممتدة قرابة سبعين عامًا، وفيها عمله بمعهد الإدارة مديرًا عامًا ثم رئيسًا لمجلس إدارته أكثر من ثلث قرن (1960- 1995م)، وبدت ملامحُ استجابةٍ اطلعتُ على مُسَوَّداتِ فصولٍ منها قبل أزمة (كوفيد-19)، ولا علم لي بما جرى بعد ذلك، ولعلنا نراها في كتاب يؤرخ لمسيرة التنمية الإدارية والاقتصادية في المملكة من وجهة أحد أبرز عرّابيها.
4- حكاية ثالثة
** التحقتُ بالمعهد بعد مغادرة معالي الأستاذ فهد الدغيثر -رحمه الله- موقعه مديرًا عامًا له فلم أعرفه فيه وإن لمستُ آثاره، وشاء الله أن نلتقيَ لاحقًا في الرياض وبيروت، وأولُها حين زار المعهدَ زيارةً خاصة ورافقه معالي المدير العام الدكتور محمد الطويل، وفيما كان أبو زياد «الدغيثر» يثني على تطور المعهد بما شاهده من نموٍ وتوسع وتغيير كان أبو غسان «الطويل» يعزو ذلك إلى جهوده المفصلية في مرحلة التأسيس، ثم زرتُه في منزله بالرياض بصحبة الصديق الأستاذ عبدالله العوهلي -رحمه الله، وتكررت اللقاءات، وحدَّثتُه في بعضها عن توثيق سيرته الإدارية في المعهد والجمارك والشركة العقارية وغيرها؛ فأجابني بما سمعته كذلك من الدكتور الطويل في انتفاء قيمة ما يُعلم وتعذر قول ما لا يُعلم.
5- حكاية رابعة
حين قررتُ الالتحاق بالمعهد، ولم أكن قد أكملتُ أوراقي بعد، وجدتُ من حاول ثنيي عن المُضيِّ في إجراءاتها، وكان اثنان منهم من أساتذة المعهد نفسه دون أن أستشيرهما أو حتى أعرفهما؛ فبالمصادفة وحدها دخلتُ مكتبهما للاستفسار عن موقع إدارة معينة، واكتفى ابن الثانية والعشرين من عمره حينها أن يُظهر اهتمامًا بهما وشكرًا لهما من غير أن يلتفتَ إلى اقتراحهما، ويحمد الله أنْ وجد ما ضادَّ رأيهما ثراءً معرفيًا ودروسًا إداريةً وخبرةً عمليةً وتواصلًا مع نخبٍ وطنيةٍ وعربيةٍ وأجنبيةٍ التقت في قاعات المعهد ومكاتبه ومكتباته وبحوثه واستشاراته وندواته ومؤتمراته.
** لا أنسى أنَّ من قابلني وقبل بي للعمل في المعهد هو معالي المدير العام «الثالث» الدكتور محمد بن عبدالرحمن الطويل؛ فتعلمت وعلَّمتُ، وأمضيت تحت إدارته ثمانية عشر عامًا لم يَكتب لي يومًا: «أسعد الله صباحك» كما كان يفعل مع المتأخرين عن بدء الدوام اليومي خلال جولاته الصباحية، وقليلٌ ما هم، وحظيتُ بخطاب شكرٍ منه، وهو أمر نادرٌ جدًا في تقاليد المعهد الصارمة التي يكفي فيها ألا يجيئَك لفتُ نظر لتقتنع أنك مميز، ووعيتُ منه وعنه ما أضاء وأضاف، ويشاء الله أن أكون فيما بعد عضوًا في لجنة مقابلات المعيدين والمحاضرين، ورئيسًا للجنة مقابلات الوظائف الإدارية والفنية، فالتقيتُ – مع الزملاء – بشبابٍ قادوا مسيرته لاحقًا، وكذا كان المعهد مصنعًا للكفاءات وراعيًا لها، وأدعو أن يظل.
** لم يطلْ مكثي بعد مغادرة الرمزين: أبا الخيل والطويل، وشاء الله سبحانه ألا أسعى في الخروج من المعهد بل سعت إليَّ وظيفةٌ قياديةٌ في القطاع الأهلي استجبتُ لها وأمضيتُ فيها سبعة عشر عامًا، وتزامن مع المرحلتين عملي الإعلاميُّ «المقروء والمسموع» الذي لم يسلمْ من محاولات زملاءَ التأثيرَ على إدارة المعهد باقتراح منعي منها، ونُقل لي ردُّ الدكتور الطويل الإيجابيُّ على تعاوني دون أن يُحدثني بما قيل ومن قال.
** مواقفي مع الدكتور الطويل تحتاج إلى مقالات، وبعضها يستحق أن يُدْرس بصورة حالاتٍ إداريةٍ عملية، ولا أشكُّ أن تقاعده المبكر في أول خمسينات عمره أفقد الإدارةَ العامة قائدًا متميزًا في القطاع العام فظفر به مكتبُه الخاص تدريبًا واستشاراتٍ ومعها راحةُ بال.
6- حكاية الحكايات
** من يعرف الدكتور محمد الطويل يوقنُ بجديته وصرامته وحزمه حتى ليُتخيَّلُ عدمُ وجود مساحة للمشاعر عنده، وأذكر مرةً أني رفعتُ له تقارير تقويم الأداء لإدارة عامة شغلتُها من أجل اعتمادها، وحسبها مبالغةً في رسم صورٍ جميلةٍ للزملاء فأعادها إليَّ مع شرحٍ كتب فيه: (لا يراك اللهُ إلا محسنًا)، وعندما راجعتُه وأوضحتُ له وجهة نظري أَقرّها كما أُعدّت.
** يبقى موقفان استعصيا على فهمي، وبينهما قرابة ثلاثين عامًا؛ الأول خارج الوطن والأخير في الرياض؛ ففي عام 1995م نُقل المؤتمر الدولي للعلوم الإدارية من الرياض إلى دبي في حادثةٍ كتبتُ عنها في هذه الصحيفة، وتحدث عنها الدكتور الطويل في لقاء الزملاء المعهداريين، ولا موقع هنا لإعادتها، وإنما لاستعادة لقطة الختام حين كان أبو غسان يلقي كلمة الوداع فتهدج صوتُه وطفرت دموعُه، وتساءلنا: أهذا الطويل الذي نعرفه؟!
** أما موقف الرياض فقبل أيام (السبت 25-02-2023م) حين حكى في الاجتماع السنوي عن قصة التحاقه بالمعهد، وعرضَ نُتفًا من مسيرته فيه، وتداخل زملاءُ مشيدين بإنجازات مرحلته فأكَّد أن الفضلَ مستحقٌ للأستاذ الراحل فهد الدغيثر -رحمه الله، وهنا لم يستطع إكمال حديثه فقد غلبته دموعُه.
** جاء تفسير الدموع الأولى بالدموع الأخيرة، فهي الوفاءُ في الرياض والإيفاءُ في دبي، وما ظنناه قسوةً أخفى قلبًا أسيفًا وروحًا رقيقةً، وأكاد أسألُه: لم تواريتَ خلف قناعٍ لا يشبه قلبك وروحك؟!
7- النهاية
شكرًا لمعهد الإدارة العامة في زمننا؛ فقد أسكَنَنا علياءَه وأسكنّاه قلوبنا وعقولنا، ومن أجله تنازلتُ في هذا المقال عن ضمير الغائب الذي أدمنتُه، ولن أنسى أساتذتي وزملائي الذين استقبلوني منذ يومي الأول ورعوا خطواتي الأولى وواصلوا إرشادهم، وأشيد بمن عملتُ معهم وتحت إشرافهم، وآمل أن أكون قد أدَّيتُ شيئًا من حقهم، وإن قصَّرت في ذكرهم، وطرحتُ اقتراحًا في الاجتماع الأخير لكتابة مسيرة المعهد «زمان» كما عاشه وعايشه الأقدمون، وأبديتُ استعدادي لتحريره؛ فلعله يلقى قبولًا ومؤازرة، وللمعهد بما فيه ومن فيه حكاياتٌ لا تنتهي إلا لتبدأ.