المجلس الأعلى السعودي للإعلام.. وقفة تقويمية بعد قرار الإلغاء


كانت حفلة الغداء، التي أولمت بها الأمانة العامة للمجلس الأعلى للاعلام ظهر يوم الأربعاء الموافق للثلاثين من ابريل (نيسان) الماضي، إثر الاجتماع (238) للجنة التحضيرية للمجلس، بمشاركة مندوبين من رئاسة شؤون الحرمين الشريفين، وجامعة أم القرى، والجامعة الإسلامية، لمناقشة مشروع إعداد موسوعة الحرمين الشريفين، بمثابة الغذاء الأخير المُؤذِن بإنهاء أعمال المجلس، بعد نحو ربع قرن، وبعد أن أوصت لجان إعادة هيكلة أجهزة الدولة بإلغائه وبعض المجالس التنظيمية والإشرافية الأخرى المماثلة، نظراً لانتهاء الغرض منها.

وأجد هذه المناسبة فرصةً لتوثيق تاريخ المجلس وتقويم منجزاته ونشاطه، من دون الدخول في مناقشة سلامة القرار الأخير من عدمها.

لقد مرّ إنشاء المجلس بمرحلتين، كان عمر الأولى خمسة عشر عاماًً تقريباً (من 1967 ـ 1981) بدأت بلجنة لتخطيط السياسة الإعلامية برئاسة وزير الإعلام آنذاك، وبعد أن عقدت بضعة اجتماعات توقفت مدة تزيد على ثمانية أعوام، ثم ما لبثت الفكرة أن بُعثت من جديد، بتشكيل جديد وباسم جديد هو المجلس الأعلى للإعلام، الذي عقد نحو عشرين اجتماعاً ثم توقف.

أما المرحلة الثانية، فقد بدأت بصدور أمر سام (سنة 1981) يقضي بإعادة تشكيل المجلس من جديد برئاسة وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز (بوصفه رجل دولة) وقد تأسست له لأول مرة أمانة عامة متفرغة مرتبطة بمكتب رئيسه، ولجنة تحضيرية من أربعة أعضاء.

عقد المجلس خلال ثلاثة وعشرين عاماً، (52) اجتماعاً كما عقدت لجنته التحضيرية (238) اجتماعاً، وكان كاتب هذا المقال عضواً في المجلس في مرحلته الثانية هذه، وعضواً في لجنته التحضيرية منذ نشأتها، مما يجعل هذه الوقفة التقويمية منصّبةً على المرحلة الثانية من عمر المجلس، حيث أصبح المجلس فيها هيئة إشرافية تنظيمية، لها سمتها الاعتبارية والميزانية شبه المستقلة.

بداية، يغالبني شعور مستمر بأن هذه المجالس الإشرافية، إنما يُفكّر فيها وتُنشأ أساساً بهدف الوصاية على أداء أجهزة رسمية أو قطاعات حكومية معيّنة، عندما تلاحظ الجهة العليا ضعفاً في أدائها أو خللاً في أوضاعها، ولا يكون في الإمكان إجراء تغيير جذري في قيادتها، ومن يتتبع نشأة هذا المجلس والمراحل التي مرّ بها أو جرى تفعيله فيها، أو حتى جُمّد فيها قد يجد أن هذه النظرية لا تبتعد عن الحقيقة كثيراً.

لقد كان المجلس على مدى ثلاثة وعشرين عاماً بمثابة هيئة استشارية متخصصة للديوان الملكي، وعمل في الوقت نفسه سلطة تنظيمية وإشرافية، للاطمئنان على تطبيق السياسة الإعلامية وعلى حسن تنفيذ الأنظمة الصحفية، إذ يُعدّ المجلس الحاضن الأول (والأب الروحي إن جاز التعبير) للسياسة الإعلامية، بعد أن كان قد عكف على إنجازها خلال عام من تكوينه وكان في هذا العام بصدد تحديثها (صدرت السياسة الإعلامية بقرار مجلس الوزراء 1982) .

أما الوظيفة الرئيسية الثانية التي كان يقوم بها، فهي الحكم ( الفيصل ) بين الأجهزة الإعلامية من جهة، التي قد تكون طرفاً في الخصومات وبين المتضررين والشاكين، افراداً أو مؤسسات من جهة أخرى ، وكان المجلس ورئيسه ينشغلان في كثير من الأحيان بالعديد من هذه المنازعات، وهو جانب قد يحصل فيه فراغ بغياب المجلس، بوصفه الرقيب على تطبيق الأنظمة الصحفية بالذات.

إن كثيراً من الدول المماثلة للمملكة في ظروفها ونظامها السياسي، بل وبعض دول الغرب، قد تأخذ بفكرة هذا المجلس، وقد تُسند إليه مسؤوليات تنفيذية – كإصدار تراخيص البث الإذاعي والتلفزيوني الخاص – لكن فاعليته تتوقف على توفير أعلى قدر من المهنية والاختصاص والتفرغ، وعلى احتضان ذوي الخبرة المتراكمة في التقنية والفنون الإعلامية والصحفية، ممن يتفوّقون في كفاياتهم الاحترافية على غيرهم من العاملين في المجال التنفيذي.

بل إن بعضاًَ من الدول تجد في تشكيل مثل هذا المجلس بديلاً لوزارات الإعلام نفسها، متى ما كان على درجة مقنعة من التأهيل والفاعلية ومواكبة الأحداث والتقنيات المتطورة، وقد تلجأ بعض الدول إلى تفريغ الأعضاء من أي أعباء أخرى، ومن أمثلة تلك المجالس هيئة الاتصال FCC الفيدرالية الأميركية FCC ، والمجلس الأعلى للاتصال في فرنسا، وهما الهيئتان المعنّيتان بتنظيم شؤون الإعلام في بلديهما حيث لا توجد وزارات للإعلام.

إن ظاهرة تكوين المجالس التنظيمية في المملكة من ذوي المناصب الرفيعة ومن خارج المؤسسة الواحدة قد تعيق عقد الاجتماعات، وتضعف الاستفادة من فكرهم وتركيزهم، وقد حاول المجلس الأعلى (السعودي) للإعلام معالجة هذه المشكلة بتفويض رئيسه بالبت في الأمور المستعجلة، وبتكوين لجنة تحضيرية دائمة لمساعدة الرئيس في النظر في المسائل التي لا تستدعي عقد المجلس بهيئته الكاملة، ومع ذلك فقد بقيت الرتابة تسيطر على بعض أعماله، وصارت اجتماعاته تتباعد، وأعباء رئيسه تزداد، وهو ما يتنافى مع الهدف الأساسي من تكوينه، بأن يكون العمل فيه جماعياً ومؤسسياً.

ثم جاء مجلس الشورى قبل عشرة أعوام ليضيف ـ بوجود لجنة متخصصة فيه للشؤون الإعلامية ـ حلقة بيروقراطية جديدة قد تؤخر صدور بعض الأنظمة التي تنتهي دراستها من وزارة الإعلام ثم المجلس الأعلى للإعلام، وهو ما حصل مع نظامي المطبوعات والمؤسسات الصحفية، صحيح أن عبورهما على مجلس الشورى ساعد إلى حد كبير في تطويرهما وتخفيف قيودهما، ومع ذلك فلا جدوى ـ حقيقية ـ من وجود تلك المجالس التنظيمية مع وجود لجان متخصصة في مجلس الشورى وبالعكس.

ومما قد يعيق عمل هذه المجالس التنظيمية هو أسلوب تكوينها، حيث قد يطغى فيها عدد غير المتخصصين على عدد أرباب المهنة والاحتراف والتخصص، فالأعضاء المحسوبون على المهنة قد لا يجدون من الفريق الآخر الحماسة الكافية لقضاياهم المطروحة، نتيجة عدم إلمامه بجوانبه الفنية، ولذلك فإن وقت الاجتماعات قد تمضي في شرح التفاصيل ومحاولات الإفهام والإقناع.

إن ظاهرة اللجوء إلى إنشاء المجالس واللجان الإشرافية العليا من أجل الوصاية على الأجهزة التنفيذية الضعيفة أو المقصرة قد لا تحقق المقصود منها، لأنها قد تكون علاجات مسكّنه، و قد تنقلب إلى مشاجب يعلّق عليها تقصير إضافي وقد تؤخذ حجّة لتأخير الإصلاح داخل الجهاز، لكنها ـ أي تلك المجالس ـ قد تفيد إذا ما كوّنت في شكل فريق استشاري داخل الجهاز نفسه ولمساعدة رئيسه في اتخاذ القرار المناسب للإصلاح والتطوير، على أن تكون الغلبة في تكوينها لذوي الخبرات العالية في طبيعة العمل، أما التقصير فلا ينفع فيه إلا العمليات الجراحية الحاسمة.

ولو وضع مجلس الإعلام، أو غيره من المجالس الإشرافية، في ميزان التقويم الموضوعي، لوجد أنها تنجح في الدراسات الفكرية التأملية المتأنية، وأنها قد تخفق في التعاطي مع المشكلات الفورية العاجلة والطارئة التي تتطلب الحضور في مشهد الأحداث المتسارعة، وهو ما يفسر نجاح مجلس الإعلام في وضع وثيقة السياسة الإعلامية واستراتيجية الإعلام الخارجي ودراسات واقع الإعلام السعودي وتشخيصه، وإقامة الندوات المتخصصة، ونحوها من الأعمال التي يرجى أن تجد طريقها نحو التوثيق والنشر قبل أن تغلق هذه المجالس أبوابها وتؤول تلك الدراسات إلى المخازن والمستودعات.

والمأمول من لجنة الإصلاح الإداري ولجان إعادة الهيكلة وهي تنظر في هذه الأيام في تبعات تصفية ما تقرر إلغاؤه من مجالس أن توجد الآلية التي تكفل بها توجيه الأعمال المستمرة التي بين يدي هذه المجالس، كتلك التي ذكرتها في مستهل هذا المقال (موسوعة الحرمين الشريفين) إلى حيث يمكن إنجازها، وألا تتسبب في دفن الدراسات الجيدة التي قامت بها بمجرد إحالتها إلى جهات الاختصاص.

* إعلامي سعودي، عضو مجلس الشورى