منذ أن أعلن عن توحيد المملكة العربية السعودية (15/8/1932) وهو الإعلان الذي صدر عن القصر الملكي في الرياض، ووقعه الأمير (الملك) فيصل بأمر والده الملك عبد العزيز، والمجتمع السعودي، لا يكاد يتذكر من ذاك العام وذلك الإعلان (نظام توحيد المملكة) سوى الجزئية المتعلقة بتاريخ اليوم الوطني، الذي اختار يوم الأول من الميزان من كل عام (المصادف للثالث والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر) ليكون يوما وطنيا للبلاد، على غرار ما هو معمول به في سائر البلدان.
ومنذ ذلك العام، بدأ العد التصاعدي لاحتساب تاريخ توحيد البلاد، الذي مر عليه حتى الآن سبعة وسبعون عاما (بالتقويم الميلادي).
والواقع أن عام 1351هـ (1932م) والإعلان المشار إليه، كانا حافلين بالمعطيات الدستورية الثمينة التي غيرت مجرى التاريخ في البلاد، ونقلتها نقلة سياسية وتنظيمية من الطور العسكري إلى الطور التنموي، فكان صدور النظام إيذانا ببدء الكثير من التحولات، ولعلنا في هذه الذكرى، التي تمر بنا في هذه الأيام، نتأمل في بعض الاستحقاقات الدستورية التي يمكن استخلاصها مما حدث في ذلك العام:
1- شهد ذلك العام التأسيس الحقيقي للدولة الحديثة، حيث وُضع فيه الاسم النهائي للدولة (المملكة العربية السعودية)، وحددت سمتها الدستورية بين أنظمة الحكم المختلفة (المملكة) وأوضحت هويتها الوطنية القومية (العربية) وأوفى المؤسس حقه بالانتماء إلى اسمه (السعودية)، وهو الاسم الذي عرفت به البلاد منذ عهد مؤسسها الأول الإمام محمد بن سعود، كما تحدد عَلَمها وعاصمتها وصفة الحكم الوراثية الشورية.
2- صحيح أن مجلس الشورى القديم كان قد أُسس قبل إعلان توحيد البلاد بست سنوات (1926م)، لكنه كان في الواقع يجمع في حوزته السلطتين التنظيمية والتنفيذية، أما بعد إعلان توحيد المملكة، فلقد أصبح دوره مقتصرا على مهمته البرلمانية الأساسية بوصفه سلطة تنظيمية (تشريعية). وأقيمت عام (1932م) نواة السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء) وذلك بإنشاء بداياته الأولى، وهي مجلس الوكلاء الذي تحول بعد عشرين عاما إلى مجلس الوزراء.
شُكّل مجلس الوكلاء برئاسة الأمير فيصل نائب الملك في الحجاز، وضم في عضويته وكيل وزارة المالية، ونائب رئيس مجلس الشورى، ورؤساء المصالح الحكومية القائمة آنذاك.
3- وبينما لم يكن في البلاد قبل ذلك العام الذي يتحدث عنه المقال (1932م) سوى وزارة واحدة (هي وزارة الخارجية التي تأسست قبل ذلك بعامين 1930م) تأسست ثاني وزارة في البلاد (هي وزارة المالية) التي عُين عبد الله السليمان الحمدان وزيرا لها، وكانت تسمى أم الوزارات لأنها كانت تجمع كل المصالح الحكومية الخدمية (بما فيها الدفاع والصحة وغيرهما)، إلى أن جرى فيما بعد تجزيئها بإقامة وزارات أخرى للدفاع والداخلية والصحة ونحوها.
4- ومنذ ذلك العام (1932م) بدأت تتضح معالم السلطة القضائية بإنشاء رئاسات للقضاء في الحجاز وفي نجد، وبتطوير أنظمة القضاء وإجراءاته، ومن هنا يتضح كيف، في ذلك العام، تبلورت معالم السلطات الدستورية الثلاث (القضائية والتنظيمية والتنفيذية) وهي الأركان الثلاثة التي تقوم عليها كل أنظمة الحكم بمختلف أشكالها في العالم.
5- وكانت توجد في البلاد عند انضمام إقليم الحجاز مجموعة من القنصليات الأجنبية، ففتح إعلان توحيد المملكة في ذلك العام الباب سياسيا للدول الكبرى للاعتراف بالدولة الجديدة، وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها على مستوى السفراء، فكان إعلان توحيد البلاد مشجعا على ذلك.
6- ونص نظام توحيد المملكة على فقرة تطلب من مجلس الوكلاء «الشروع حالا في وضع نظام أساسي للحكم، ونظام لتوراث العرش، ونظام لتشكيلات الحكومة».
7- وبعد مضي أقل من عام على توحيد المملكة، بتغيير اسمها من: «المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها» إلى اسم «المملكة العربية السعودية»، اجتمع مجلس الشورى ومجلس الوكلاء، واتخذا قرارا في 11/5/1933 بمبايعة الأمير (الملك) سعود وليا للعهد، فتحددت بذلك معالم ولاية العهد ووراثة الحكم.
8- وإن من يتتبع ملامح التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمملكة العربية السعودية، يجد أن مطلع الثلاثينات قد شهد أولى الخطوات الجادة للاستثمارات الاقتصادية (بما فيها التنقيب عن النفط)، بل إن من يطلع على السجل الوثائقي لتاريخ المملكة سيجد أن البلاد قد أبرمت في النصف الثاني من عهد الملك عبد العزيز، بدءا من أوائل الثلاثينات معاهدات سياسية وحدودية واتفاقيات اقتصادية، ما زالت البلاد تجني من ثمارها إلى اليوم.
وهكذا يتضح من قراءة نظام توحيد المملكة، ومن ضمنه تحديد يومها الوطني وهويتها الدستورية، أن الذكرى تحمل مضامين تتجاوز تاريخ اليوم الرمزي إلى معانٍ أعمق وأشمل، وهي تستحق منا التوقف طويلا، ثقافيا وأكاديميا واجتماعيا، لاستجلاء معانيها والتمثل بمغزاها ومقاصدها، بشكل يفوق مجرد الاحتفال بيوم واحد كل يوم.
* باحث وإعلامي سعودي