ثنيان بن فهد آل ثنيان


مع مرور الأعوام وتغيّر المعالم العمرانيّة، يندر أن تجد في العواصم الحديثة، مَن يدلّ على تراثها القديم، هكذا هو الحال مع الرياض، وجدة، والكويت، ودبي، وبيروت وغيرها، وبقيّة المدن العربيّة التي تعرّضت للتطوير، وكان من نتائجه وضحاياه اندثار معظم التراث العمراني، ولعل المحظوظ من تلك الحواضر ما أبقت بلديّاته على جزء تاريخي منه للذكرى والسياحة، أو عملت على تحديثه بما يحاكي القديم ويحافظ على طابعه ورمزيّته.
في الرياض، أدرك كاتب المقال منذ أواخر الخمسينات أحياء «مصدّة والعطايف وحلّة آل بحير» والنسخة المطوّرة الثانية من بقيّة ميادين العاصمة وأسواقها ومبانيها الطِينِيَة، وبدايات شق الشوارع الجديدة، على اعتبار أن النسخة التي سبقتها، كانت تلك التي يتذكّرها الآباء ممن أدرك جيل الملك المؤسّس عبد العزيز.
اليوم، يبحث المرء بين المعمّرين من أجل أن يستلهم التاريخ، فيجد أن قائمتهم تتناقص، وأن عوامل التعرية وثقوب الأيّام صارت تنخرط في الذاكرة، فيلجأ الباحث إليهم ليستعين بهم على تثبيت المعلومات وتأكيد الروايات، ويعود إلى نُتَف الوثائق المهترئة والكتابات والمقابلات، علّه يجد خيوطاً ينسج منها أبحاثه ومقالاته، وبالتدريج أصبح جيل الخمسينات نفسه يدخل الآن ضمن هؤلاء الذين يتحدّث عنهم العنوان.
بعد أن اقتنص القلم بعضهم، وأفلتت العشرات منه، انتصبت أمامنا بقيّة من المعمّرين تُعدّ اليوم على الأصابع، ومن بينهم شاهد ذهبي يوشك بفضل الله أن يبلغ القرن، بذاكرة ممشوقة صافية، ومعلومات أصيلة، لا تكاد توجد إلّا في مخزون ذكرياته، بعد أن مضى من كان يُدلي بأحاديث وكتابات قام الاعتماد عليها، كالأمير مساعد بن عبد الرحمن، وحمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وسعد الرويشد، وعبد الرحمن بن رويشد، ورجال الأعمال؛ عبد العزيز الحقباني، وعبد العزيز بن مقيرن، وعبد الله أبونيّان، وغيرهم.
كان البحث في يوم مضى لغرض توثيقي، عمّن تستعيد ذاكرته مساكن بعض رموز الأسرة المالكة قبل بناء منازل حي «المربّع» في أواخر الثلاثينات، وأماكن إقامتهم المحيطة بقصرَي الحُكم والمَصمك مما يلي شارعي الثميري ودخنة وميدان الصفاة، وكتاتيبهم ودور الضيافة «خريمس وثليم» والدواوين، وحدود الرياض ودراويزها وأسواقها، فقيل: تجدها اليوم عند أبي فهد الثنيّان «الحوشان» مدّه الله بالصحّة والعافية، وهو الوجيه ذو الديوانيّة المسائيّة المفتوحة، والمكتبة العامرة، والمحيّا والبِشْر الرّحْبَين.
لكن المكانة الحميمة لكاتب هذا المقال عند أبي فهد، لم تكن بأسرع من «سحر» الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، عاشق التراث، المفتون بالتاريخ، ومنشئ «مؤسّسة التراث الخيريّة» التوثيقيّة التي بلغت الثانية والعشرين من العمر، وهو يمتلك موهبة الاهتمام بالتاريخ الشفوي المحلّي بتفاصيله، مما استقاه من مَـلَـكَـة والده (الملك سلمان) الذي تُشكّل رعايته لدارة الملك عبد العزيز عنوان اهتماماته المستمرّة بالتاريخ، منذ أن كان أميراً لمنطقة الرياض، وهي مَلَكة يندر وجود من يهتمّ بها اليوم فضلاً عن أن يتخصّص.
ظفر الأمير سلطان من الشيخ ثنيّان في جلسة شائقة، من دقيق المعلومات بعض ما كان يبتغيه عن أسرته القريبة؛ والديه وإخوته وأختهم وأعمامهم وأخوالهم، وأماكن نشأتهم منذ بداية الأربعينات، في محيط بيوت العائلة المالكة بجوار قصر الحكم بـ«الصّفاة» وفي منازل «المنصوريّة» في حي الوشام وبيوت «المصانع» جنوب غربي الرياض، وفي قصور المربّع لاحقاً، مما يحفظه ثنيّان عن ظهر قلب، ويمكن أن يملأ كتاباً في مضمونه.
الشيخ ثنيّان، عاش وثيق الصِلة بالشؤون الأسريّة للأميرة حصة بنت أحمد السديري، وأبنائها الملك فهد وأشقائه الستّة (بمن فيهم الملك سلمان) وشقيقاتهم الأربع، وأخيهم من الأم عبد الله ابن عمّهم محمد بن عبد الرحمن، ويُعدّ ثنيّان أحد مصادر المعلومات عن نشأتهم جميعاً، وبخاصة الأمير نايف، وأماكن ولادتهم ودراستهم ومناقبهم وبرنامج حياتهم اليوميّة ومحيطهم ومرافقيهم.
من المعروف أن منشأ أسرة آل ثنيَّان «الحوشان» من ضاحية «ضرما» غرب الرياض، وانتشرت فروعها في نواحٍ عدة من البلاد، وبخاصة في ضاحيَة «العمّاريّة على ضفاف مجرى وادي حنيفة» وقد عمل ثنيّان مع أخويه عبد الله ومحمد على تأسيس بضعة مصانع وشركات، منها الجبس والكهرباء والغاز ومطابع الرياض ومؤسسة «اليمامة» الصحافية؛ مما ساعده على مراقبة التحوّلات المعيشيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة في بيئة العاصمة وما حولها، وما طرأ عليها من متغيّرات مذهلة عبر تسعين عاماً وعاها ثنيّان وإخوته وأولادهم.
اليوم، وعلى الرغم مما كتبته الأقلام عن الرياض – العاصمة قديماً وحاضراً، ومن جهود دارة الملك عبد العزيز في التوثيق وهيئة تطوير الرياض في العرض وغيرهما، ومما دوّنه الرحّالتان «بلجريف» و«فيلبي» وغيرهما من وصف وخرائط منذ قرن ونيّف، تظل هناك معلومات أساسيّة تنقص الباحث عن أدق التفاصيل، وقد نشأ في العقد الأخير جيل من الشباب المهتمين بالوثائق والتاريخ المحلي تتّجه إليهم الأنظار لملء الفراغ في إتمام جهود الأفراد والدارة، من بينهم راشد العساكر والدكتور عبد الله المنيف، وغيرهما.
ومع ذلك، لو رغب أحد المهتمّين بالتاريخ مثلاً، في توثيق الأمكنة التي ولد أو عاش فيها رموز الحكم والعلم والأدب والاقتصاد، أو تحديد الكتاتيب والمساجد التي درسوا أو علّموا وعملوا فيها، فعليه أن يحفر في الصخر في ظلّ غياب جيل الأدمغة التي حفظت تاريخ الرياض والمدن الأخرى التي استشهد المقال بها في بدايته، مما لا يُعفَى معه المثقّفون الحاليّون من مسؤوليّته، وهذه في الواقع أحد أوجه الاختلاف في المدارس بين المؤرّخين العرب وسواهم.
أليس من الجميل حقّاً، والسعودية تعيش مناخات ذكرى يومها الوطني في هذه الأيّام وأجواءها، أن تعمل كل منطقة إداريّة على إحداث مركز لتوثيق التاريخ الشفهي لروّادها الخالدين من الرجال والنساء، والعناية به وحمايته من الضياع؛ وليكون رافداً من روافد التاريخ الوطني الشامل؟
* إعلامي وباحث سعودي