عثمان الصالح .. مربي الأنجال والأجيال


كثيرون هم المربون والمعلمون الذين حفروا في ذاكرة أوطانهم وتلاميذهم آثارا لا تمحوها عوامل الزمن، وفي المجتمع السعودي، الذي لا يختلف كثيرا في هذه الناحية عن المجتمعات العربية الأخرى، كان المشايخ ومعلمو الكتاتيب والمربون في المدارس، من اكثر المؤثرين في حياة الناس، ومن أقواهم التصاقا بأفراد الأسرة الواحدة، لا يكاد يصل الى منزلتهم سوى أئمة المساجد ممن هم على درجة عالية من العلم والجاذبية الخلقية والانسانية.

يأتي في مقدمة هؤلاء المعلمين والمشايخ والمربين والأئمة، أساتذة الحرمين الشريفين في كل العصور، الذين تركوا في نفوس طلبتهم بصمات معرفية وسلوكية ظلت معهم طيلة حياتهم، لكن مناطق المملكة العربية السعودية الأخرى كافة، نجدا والأحساء وعسير وتهامة ونجران، ومدناً مثل حائل وبريدة وعنيزة والمجمعة وحريملاء وأشيقر وشقراء والقطيف وغيرها، عرفت نماذج متميزة من هؤلاء تزخر بها كتب التوثيق التربوي التي رصدت مسيرة التربية والتعليم خلال القرون الماضية، فعرفنا منهم على سبيل المثال في العصر الحديث أبو السمح والمشاط في الحرم المكي والأنصاري والشاعر والزغيبي والتركي في المسجد النبوي، وعبد الجبار في جدة، والمبارك في الهفوف، والقاضي والصالح والسعدي في عنيزة والعنقري والصانع في المجمعة، وآل الشيخ في الرياض والسالم في حايل وهكذا، وهم اكثر مما يعدون…

لكن معلما واحدا بين هؤلاء، حاز لقبا تميز به على اقرانه من رجال التربية والتعليم في النصف الأخير من القرن الماضي، وهو لقب «المربي الفاضل» الذي توافق المجتمع على اطلاقه عليه، دون ان يصدر به قرار إداري ملزم، فصار اذا ما اطلق دون تحديد انصرف الذهن اليه تحديدا.

إنه عثمان بن ناصر الصالح, الذي انتقل الى رحمة الله امس, والذي تآلفت القلوب على محبته، وشعبيته في مجتمع الرياض بخاصة، وفي المنطقة الوسطى بعامة، بل وفي الوطن السعودي بشكل أعم وأشمل.

كان بالامكان ان تنحصر معرفة الناس به في المحيط المحدود، الذي عمل فيه استاذا ومربيا ومديرا، لكن الرجل لم يترك زاوية في بلاده إلا وشد عصا الترحال اليها، مشاركا في نشاطها الثقافي والانساني والاجتماعي، حتى صار الشخصية المشاعة التي وصل الى واتصل بها الجميع، وأصبح أحد اعيان الوطن الذين نفسح لهم صدر المكان محبة وإجلالا وتقديرا وعرفانا بأفضالهم.

لم يكن «المربي الفاضل» من خريجي الجامعات، لكن معارفه المتنوعة، وانفتاحه الذهني، ومرونته الاجتماعية، جعلته في طليعة المثقفين في زمنه الذين يضاهون بثقافتهم وذوقهم وفهمهم أمثالهم في المجتمعات المجاورة، وهنا اصبح الصالح أحد وجوه المجتمع السعودي الذين اختلطوا بغيرهم، واحتلوا مكانة مرموقة خارج الحدود، وكونوا صداقات وصلات داخلية وخارجية واسعة، واصبحوا في الداخل مقصد كثير من الزائرين الذين يرغبون في لقاء نماذج عصرية متفتحة من رجال العلوم الشرعية والتربية والتعليم.

كان الأستاذ الصالح أشهر من تولى ادارة مدرسة الأمراء في الرياض التي كانت قريبة الصلة بالقصر الملكي، وتعامل بأسلوب تربوي حازم، وبسواسية بين الطلاب سواء كانوا من الأمراء أو من غيرهم، حتى اصبح كل من مر بهذه المدرسة يدين بالتلمذة له أولا، ولأساتذته الذين باشروا التعليم فيها ثانيا.

وكان لاختياره من قبل الملك عبد العزيز مديرا لها قصة تطول روايتها، لكنه من حسن الحظ، دونها في مذكراته التي وثقتها في حلقات مجلة «المعرفة» التي تصدرها وزارة التربية والتعليم، تقول خلاصة القصة: إن الملك اعجب في الثلاثينيات بأخيه الأكبر صالح الذي كان قد استوطن عنيزة، وافتتح مدرسة أهلية نقل اليها الأساليب الحديثة التي تلقنها في مدرسة «النجاة» ببلدة الزبير العراقية، لكن الأخ الأكبر يعتذر ويرشح أخاه عثمان الذي اصبح عندئذ مديرا لمدرسة الأبناء ثم اتخذت فيما بعد اسماء مختلفة هي: الأمراء، ثم الأنجال، ثم الاسم الحالي: معهد العاصمة النموذجي.

ولد الأستاذ الصالح في مدينة المجمعة (180 كم شمال الرياض) في حدود عام 1912، وتعلم في كتاب أحمد الصانع، وكان من مشايخه في مبكر شبابه كل من قريبه عبد العزيز بن صالح إمام المسجد النبوي بالمدينة المنورة، ومحمد بن ابراهيم آل الشيخ مفتي المملكة، وفي حدود عام 1928، التحق طالبا بمدرسة أخويه الأكبر: صالح وعبد المحسن اللذين أسسا أول مدرسة اهلية حديثة في عنيزة بالقصيم.

ثم قام بتأسيس أول مدرسة خاصة عصرية في مسقط رأسه: المجمعة (1930)، وكانت نواة اول مدرسة حكومية في اقليم سدير (1936)، فأصبح معاونا لمديرها المربي المعروف: سليمان الأحمد، وعند قيام الحرب العالمية الثانية حاول ان يجرب حظه في عالم التجارة فلم يفلح فيها، وهنا عاد الى مهنة التدريس ليصبح عام (1940) مديرا لمدرسة الأنجال (الأمراء وغيرهم)، في الرياض، مستخدما لأول مرة في نجد اساليب التدريس الحديث وتجهيزاته لتصبح مؤسسة نموذجية متطورة، ألحقت بها روضة للأطفال ومدرسة للبنات ومجلة للطلاب وجمعية للكشافة ونحوها، وقد تقاعد عام 1971.

أسهم الشيخ الصالح في مجلس الأوقاف، وكان من مؤسسي مؤسسة الجزيرة الصحفية، له دور فاعل مستمر في تطويرها ومتابعة شؤونها، وأشرف لسنوات عدة على مجلة للبحوث تصدرها دار الافتاء السعودية.

والشيخ الصالح شاعر وكاتب، ووجه اجتماعي وثقافي نشط، اسس ندوة اسبوعية في دارته كانت تعج بالحضور، استضاف من خلالها عددا من مثقفي وطنه والوطن العربي كافة، وقد كرمته الدولة بأعلى الأوسمة، وكان باستمرار محل حفاوة المجتمع التربوي والثقافي، وهو له من الأولاد خمسة أبناء وثلاث بنات رحمه الله رحمة واسعة

* إعلامي سعودي