القوة الناعمة للسعودية


برز مصطلح «القوة الناعمة» وما زال، في ميادين السياسة الدولية، وظهر أول ما ظهر في بريطانيا أواخر القرن التاسع عشر، وكان من بين من سعى لبلورة مفهومه وتحديد سماته في العقدين الماضيين، وبخاصة بعد حرب تحرير الكويت، ثم في أعقاب أحداث سبتمبر (أيلول)، جوزيف ناي، وهو مساعد سابق لوزير الدفاع الأميركي، فألف في المصطلح كتابه «The Soft Power» الذي صدر في ترجمته العربية (القوة الناعمة) عام 2007.

المصطلح، شاع استخدامه إبان الحرب الباردة، في مقابل تعبير «القوة الخشنة» أو الصلبة «The Hard Power» التي تعني – بشكل أساسي – الأخذ بخيار القوة العسكرية سبيلا لحل النزاعات الدولية. وفي مقابل مفهوم ثالث يطلق عليه «القوة الذكية» التي تمزج بينهما، وركز على البدائل المتاحة لحل المشكلات عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال، حيث بدأ المنظرون في العلوم السياسية والاجتماعية يضيفون على التعبير سمات وأبعادا أخرى تمتد إلى الاقتصاد والدين والثقافة والتعليم والإعلام، وصاروا يفتحون آفاقا متنوعة لكسب الشعوب، كنشر مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمعونات الاقتصادية، يقول جوزيف ناي: «ليست العبرة في عدد الأعداء الذين تُخضعهم بل في عدد الأصدقاء الذين تكسبهم، وإن القوة الناعمة ليست ضعفا بل هي شكل من أشكال القوة، وإن الفشل في دمجها في الاستراتيجية الوطنية يُعد غلطة خطيرة».

كنا قد تعارفنا في عقود خلت على أن سياسة الردع تعبير عن القوة الخشنة، لكن في لغة السياسة، وفي علوم الاتصال، ومدارس الأخلاق، ما قد يتفوق عليها تأثيرا في اجتذاب الشعوب وجسر التواصل بينها، على أنه لا بد من التأكيد على أن الحديث عن استثمار القوة الناعمة لأي دولة، لا ينبغي أن يكون بديلا عن التسلح لحفظ الأمن بالقوة الرادعة.

ذهبت معظم الكتابات – على قلتها – التي تحدثت عن موضوع «القوة الناعمة» باتجاه تأسيسها على أنها «نظرية» بدأت معالمها تتضح في العقود الأخيرة، وبخاصة في أثناء فترة الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حينما نفذت الدول الغربية تطبيقات منها على الشعوب التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي المنحل، وربطت تلك الكتابات مفهوم «القوة الناعمة» ربطا وثيقا مع السياسات الخارجية للدول، ثم صارت الكتابات الحديثة تدعو للأخذ بها في مجال السياسات الداخلية، وفي جهود التغيير والإصلاح الدستوري والإداري والاجتماعي، بل لقد ظهرت كتابات أحدث تتناول ما جرى من انتفاضات سياسية في بعض أنحاء الوطن العربي، وتعدها شكلا من أشكال اللاعنف في التغيير السياسي.

بعض الأقلام تناولت مسألة «القوة الناعمة» من زاوية الإعلام، مذكرة بالدور المؤثر الذي اضطلعت به إذاعة لندن وبرلين الحرة وصوت أميركا وغيرها إبان الحرب الباردة، ثم ما اتجهت إليه بعض الدول مؤخرا من توظيف شبكات المعلومات ومن إنشاء قنوات فضائية موجهة بلغات العالم المختلفة.

ولم تخل بعض الكتابات من التذكير بالمعاني الإسلامية الرائعة التي تضمنها القرآن الكريم والسنة المطهرة بوصفهما منبعين للكثير من التطبيقات التي تصب في مفهوم القوة الناعمة.

وكان أحمد زويل من آخر من كتب حول هذا الموضوع في صحيفة «الشروق» المصرية في يوليو (تموز) 2010 بعنوان: «هل تنجح القوة الناعمة في دفع الشرق الأوسط إلى آفاق جديدة؟»، وكأنه كان يقرأ فيما سيحدثه شباب بلاده بعد أقل من عام في ميدان التحرير بالقاهرة.

وهكذا تتنوع القوة الناعمة بتنوع مقوماتها الذاتية التي تسوق سمعتها وتحدد علاقتها مع الشعوب، حيث تتراوح عناصرها عند بعض الدول والشعوب من قوة صناعية كما في اليابان، إلى قوة اقتصاد كحال الصين، وقوة معلوماتية كما في فنلندا، وقوة حياد ومفاوضات سلام أممية كما في سويسرا والنرويج، وقوة إدارية كما في سنغافورة وماليزيا، وقوة فنون وإبداع كما في حال إيطاليا وفرنسا، وقوة بطولات رياضية كما هي الأرجنتين والبرازيل، وهنا يمكن الحديث عن نموذج يشكل في مجمله القوة الناعمة للمملكة العربية السعودية، ويضم في مكوناته البعد الديني والاقتصادي والحضاري والإنساني.

لقد مضى على إعلان توحيد المملكة العربية السعودية عام 1351هـ (1932) ثمانون عاما، اختارت فيها على مختلف العصور والعهود السياسية منحى الحياد وعدم الانحياز ولم تلجأ إلى خيار القوة إلا عندما اضطرتها الأمور لأن تسلك طريقها، وكانت الأسرع إلى تبني الوفاق، لا تتدخل إلا بمقدار ما يطلب منها، ولا تقبل من أحد أن يتدخل في شأنها وقراراتها، وكانت طيلة تلك العقود تؤثر بدائل الحسنى وتسلك طرق التصالح والوسطية والصمت والتعقل والتريث والبعد عن الانفعال، ووفرت للفرقاء ملاذا للحوار وحل المشكلات بالطرق المحمودة، وكان لها السبق في توقيع معاهدات المنظمات العربية والإسلامية والدولية، ولم تغفل طيلة تاريخها عن نصرة الشعوب المحبة للسلام، وعن إغاثة البلدان المنكوبة، والإسهام في بنوك التنمية وتوفير المساعدات الإنسانية.

في تصوري أن القوة الناعمة للمملكة المتمثلة في النموذج التنموي وفي علاقاتها الثقافية والسياسية مهما تطورت، فإن الحرمين الشريفين يظلان الشهادة الواقعية الحية الأكثر جذبا لهذه البلاد موقعا وخدمة وإنجازا، فهما مدينتان داخل مدينتين، تحتضنان كل المرافق والخدمات والتسهيلات التي قد لا يقدرها إلا من يقضي سويعات بين أحضانهما، وهما جامعتان ينثران إشعاعهما الديني والفكري في أرجاء المعمورة.

إنهما الموقعان الأكثر تعقيدا في توفير الخدمات والأبلغ ازدحاما على مدار الساعة والمواسم في حفظ الأمن والنظافة وتوفير الغذاء، اللذان لا تفيهما كاميرات التلفزيون حقهما في النقل والتصوير.

إن لنا أن نتخيل كيف يمكن لعملية فصل التوائم السيامية أن تستبشر بها أسرة بولندية، ويمكن لبئر تحفر في أعماق الأرض في صحراء مالي وأدغال أفريقيا لسقيا الإنسان هناك، وكيف يمكن لقبول طالب سنغالي للدراسة في المدينة المنورة، ولوجه دبلوماسي مضيء بالبشاشة يسهل للحجاج والمعتمرين من كازاخستان مهمة وفادتهم، وكيف يمكن لوفد شعبي أو برلماني أو تجاري أو لفرقة استعراضية أو لمتحف فني أو لمعرض تراثي متنقل أو مهرجان ثقافي في الداخل أو الخارج، أو لوفد دعوي مستنير من هذه البلاد يؤم جموع المصلين في إندونيسيا، أن يلفت الأنظار إلى رسالة المملكة في إشاعة الحب والتسامح والأخوة والسلام بين الشعوب، وكيف يمكن لكل هذه العلائق الإنسانية أن تكون ذراعا يحمل المودة والتآلف بشكل أبلغ وأقل كلفة أحيانا في ميدان العلاقات الدولية.

كانت مصداقية المملكة وعلاقاتها الناعمة، على المحك موشكة أن تتأثر في أعقاب أحداث سبتمبر، بانتماء عناصر متطرفة إلى جنسيتها، كما عانت سمعتها من بعض التشويه نتيجة تمسكها بخط إسلامي ملتزم ما زال المغرضون يطلقون عليه نعوتا وأسماء لا يعتقدها السعوديون أنفسهم، إلا أن المملكة نشطت سياسيا في العقد الماضي لتوضيح موقفها من الإرهاب، وهي الآن تبذل جهودا واسعة لتبيان حقيقة ما يسمى بالوهابية، وتذكر في كل مناسبة أنه ليس ديانة ولا مذهبا ولا طريقة، ولعل من أجمل ما دفعت به المملكة، لتأكيد نقاوة مجتمعها من الإرهاب، أن أوفدت الآلاف من البعثات الطلابية سفراء لها في أكثر من عشرين بلدا حول العالم.

لقد تعرضت هذه البلاد في العقد الماضي، كعدد من دول العالم، لموجة من صنع الإرهاب، وتعاملت معها بما تتطلبه من الحزم، لكن ما أثار إعجاب المجتمعات عقب ذلك، هو تبني منهج تربوي إصلاحي يقوم على مخاطبة الفكر المنحرف والرأفة بأسر المنحرفين والتعامل معهم بأسلوب إنساني من منظور المواطنة والحضن الرؤوم، وهو نهج يقوم على القوة الناعمة.

ومع الأسف الشديد، وعلى الرغم من القوة الروحية والاقتصادية المؤثرة للمملكة، فإن الإعلام الرسمي، الخارجي منه بالذات، لم يلعب دورا مميزا في إبراز القوة الناعمة لهذه البلاد، إذا ما استثنينا قيامه – وبقدر محدود من الإبداع – بنقل الشعائر الدينية عبر الفضائيات.

ولقد كانت دعوة هذه البلاد لحوار الثقافات والأديان بين شعوب العالم، واحدة من المبادرات التي لا ينبغي أن تمر دون أن نستعرضها بميزان من التأمل والتحليل، خاصة وقد صدرت من بلاد عرف عنها المحافظة الدينية والاجتماعية، فلقد توجهت المملكة بقدر يثير الإعجاب من الجرأة والثقة والإقدام لتبني هذا المنهج، حتى صارت الدعوة إلى الحوار عنصرا مكملا في سمات سياستها الداخلية، وجزءا متمما لنشاطها وعلاقاتها الدولية.

في الختام أؤكد على نقاط خمس:

الأولى: إن خيار القوة الناعمة سبيلا إلى قلوب الشعوب وتبنيه في أي دولة، يتطلب بيت خبرة دائمة تبتكر الأفكار والوسائل التي يمكن اتباعها ومتابعتها على كل صعيد، لجعل القوة الناعمة جزءا من كيمياء علاقاتها السياسية وإعلامها الخارجي على مدار الأعوام.

الثانية: إن التاريخ في هذه البلاد لا يزال يستعيد الهيبة الشخصية «الكاريزما» والمصداقية التي كان مؤسسها (الملك عبد العزيز) يمتلكها في تعامله الخارجي والداخلي، إذ استطاع من خلالها كسب ولاءات القبائل والمواطنين في الداخل، واحترام مناوئيه وخصومه ومعاصريه من الزعماء في الخارج، حينما كان يميز الخيط الرفيع في تعاملاته بوضع القوة الصلبة في المكان الصحيح ويضع الندى والحلم والتسامح والإقناع والحكمة حينما يجب أن تكون.

الثالثة: إن القوة الروحية المتمثلة في خدمة الحرمين الشريفين، وفي وفادة الحج والعمرة، وفي احتضان المؤسسات الإسلامية الدولية والشعبية، وفي الحفاظ على قيم الإسلام، تبقى القوة الناعمة المؤثرة والجاذبة الأكبر لهذه البلاد، متى ما استثمرت عن يقين ووظفت عن أصالة وصدق، للوصول إلى شعوب الأرض كافة، بوصفها رسالة من أرض الإسلام إلى كل القلوب المحبة للسلام، ومن هذا المنطلق، يسجل لهذه المملكة منذ تأسيسها كل الخطوات العمرانية والتموينية لتطوير المشاعر المقدسة وتحسين الخدمات فيها.

الرابعة: إن احتضان هذه البلاد لنسبة من المقيمين تعادل ثلث سكانها، وهو أمر ينظر إليه السعوديون بشيء من القلق، فإنه يمكن في الواقع توظيفه إيجابيا يجعله أحد عناصر القوة الناعمة لهذه البلاد إذا ما أحسن التعامل معه، عبر الحسنى وصون الحقوق.

الخامسة: هي ما يمكن أن يطلق عليها «القيادة عبر القدوة»، ذلك أن الآلاف من أهل هذه البلاد يجوبون أرض الله الواسعة بغرض السياحة والاستثمار، وغني عن القول ما يمكن أن تتركه تلك السياحة البشرية من قوة ناعمة في نشر السمعة الحسنة وتصحيح المفاهيم المغلوطة عن القيم الخلقية للإسلام وأهله عند أصحاب الثقافات الأخرى.

ليس الهدف إطراء منهج هذه البلاد أو إسباغ النعوت في وصف قوتها الناعمة التي تمدها جسورا للشعوب العربية والإسلامية والصديقة، فمن المؤكد أنه لا يوجد عمل خال من نقص أو ضعف، ولا توجد سياسة لا تحتاج إلى تقويم أو مراجعة، لكنها محاولة لقراءة علاقاتها من خلال مفهوم سياسي جديد في العلاقات الدولية، أصبح له محدداته وأطره، وصار ينظر إليه على أنه من أنجح الوسائل لكسب الشعوب.

أود في هذا المقام أن أؤكد أننا في هذه البلاد نعيش مرحلة انفتاح إعلامي وحراك ثقافي، ومخاض فكري ونقد ذاتي، من شأنه أن يقوم الأداء، ويزيد من وتيرة التطوير والإصلاح، ويعالج أوجه القصور في الخدمات ويردم بؤر الخلل الإداري الذي يشوه جبين البلاد ويضعف مصداقيتها عند الشعوب، وإن من شأن هذا التطوير أن يعزز من بلورة النموذج السعودي للقوة الناعمة.

وبعد: يقولون في السياسة: «إن كسب الحرب أسهل من كسب السلام، وإن القوة الناعمة ضرورة لكسب السلام».

إنها القوة الناعمة، «فن الممكن» الجديد في الحكم تبلورت مدرستها في العقدين الماضيين، تمتزج فيها العلوم السياسية والاجتماعية، وعلوم الاتصال والإعلام، لتكون «سفيرة النوايا الحسنة» للوصول إلى قلوب الشعوب و«الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية»، بديلا عن العصا الجبروتية التي عرفتها القوى الاستعمارية التقليدية.

* إعلامي وباحث سعودي، والمقال من محاضرة للكاتب ألقيت في مهرجان الجنادرية الأخير في السعودية.